1 لم أكن ثورياً بما فيه الكفاية، حين كتبت الأسبوع الماضي مقالتي (الخطاب الثوري والخطاب البقري). لكنني، للحق، لم أكن خالياً من التحيز الثوري. أقول هذا للذين بذلوا جهداً في كشف تحيزي، بيد أنني كنت أنشد الحياد النسبي ولم أدّع الحياد المطلق. وليس جديداً القول بأنه مثلما هناك ثوريون وهناك بقريون، فإن الإنسان ذاته يتقلب بين أطوار ثورية وأطوار بقرية في أزمنة حياته. تتحكم في هذه التحولات: الهرمونات والوضع الأسري والحالة المادية والطموحات والشللية (الرفقاء) والريموت كنترول (لاختيار القناة الفضائية الإخبارية!). في سن الشباب، يكون الصراع محتدماً بين الهرمونات (حافز الخطاب الثوري) والطموحات (حافز الخطاب البقري). تكون جولات لحسم المعركة بين الخطابين، فيتشكل صلصال الإنسان الثوري أو البقري في تلك الفترة العمرية الطرية. في سن الشيخوخة، تنضب الهرمونات وتتوقف الطموحات، فيصبح الصراع بين الخطابين الثوري والبقري صراعاً من أجل البقاء .. وليس الانتصار!. 2 تاه الإنسان العربي بين التثوير والتخدير (التبقير). فقد عاش العالم العربي في الخمسينات والستينات والسبعينات تحت «عويل» الخطاب الثوري، فلم يجن شيئاً طوال ثلاثين سنة من شعارات الكفاح والنضال والصمود والتصدي. لكنه أيضاً جرب العيش تحت «هديل» الخطاب البقري ثلاثين سنة مماثلة، في الثمانينات والتسعينات ومطلع الألفية الجديدة، ولم يجنِ من معاهدات السلام والعقلانية والبراغماتية وكيمياء التفاوض والجلوس على طاولات المحادثات سوى المزيد من الخسائر والتنازلات والضعف والهوان. على الأقل يُحسب للخطاب الثوري، ما كان يحسب عليه، من استحلاب العواطف. إذ مع الزمن وجد الإنسان العربي أن استحلاب واستجلاب العواطف خير من تجميدها .. بانتظار العقل، الذي يأتي ولا يأتي! 3 رجب طيب أردوغان وهيلين توماس، كانا في الأيام الماضية نموذجين للخطاب الثوري .. المنتفع والمتضرر. أردوغان، اكتسب شعبية كاسحة من موقفه تجاه «أسطول الحرية»، ليست شعبية تركية فحسب بل عربية وإسلامية، جعلته رمزاً للكرامة الغائبة منذ زمن طويل. انتفاع أردوغان من موقفه وخطابه الثوري في اكتساب الشعبية الجماهيرية لا ينتقص أبداً من موقفه النبيل، رغم تعمد بعض ذوي (الخطاب البقري) الخلط بين أردوغان وأحمدي نجاد، متناسين الفارق بين «ثورية» أردوغان .. و «ثوارة» نجاد! هيلين توماس تضررت من تصريحاتها الثورية تجاه إسرائيل ورغم أن الضرر جاء متأخراً، وهي على مشارف التسعين من عمرها، إذ لم يعد مكان للضرر أو الألم (!)، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن حالتها وتركها في العراء الصهيوني وحدها تكابد آلام الحقيقة، كما حذر الزميل الكاتب داود الشريان. جاءت تصريحات الصحافية الأميركية العريقة لتؤكد خرافة الحياد وحرية التعبير في الإعلام الغربي، حين يتعلق النقاش بالمسألة اليهودية وإسرائيل. لم تدعُ هيلين توماس إلى إخراج اليهود من فلسطين ورميهم في البحر، لتُتَهم بأنها عنصرية ولاسامية، لكنها دعت إلى إخراج اليهود من فلسطين وإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية التي هاجروا منها .. فأين العنصرية؟! في كل يوم، تنطلق من مختلف دول أوروبا دعوات يمينية لطرد المهاجرين المغاربة والأفارقة من الدول الأوروبية، والمطالبة بإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. لكن لم يتعرض أحد من هؤلاء الصحافيين أو البرلمانيين الأوروبيين للمحاسبة أو الطرد من وظيفته أو حتى التوبيخ على تصريحاته «العنصرية» .. بحسب المعيار الغربي / اليهودي! تصريحات هيلين توماس جردتها من كل امتيازاتها الصحافية في مقدم المندوبين في البيت الأبيض، أمام عشرة رؤساء أميركيين تعاقبوا على البيت الأبيض وأسئلة هيلين. وخزة واحدة فقط ضد يهود إسرائيل كانت كفيلة بفضح بالون حرية التعبير في أميركا ... عرّابة حرية التعبير في كل شأن، إلا إسرائيل! التساؤل «الثوري» الآن: هل سنترك هيلين توماس وحدها تعاني آلام الحقيقة، من دون أن تسجل منظمة عربية أو إسلامية موقفاً معلناً تدافع فيه عن الحق الإنساني لهيلين توماس، ما يشجع آخرين من داخل الماكينة الإعلامية الغربية على كسر التابو اليهودي / الإسرائيلي، الضاغط بقوة على الرأي العام العالمي (الغربي) المتحيز؟! اغفروا لي هذا السؤال (الثوري) .. فقد جفت الهرمونات والطموحات، أو كادت! * كاتب سعودي. [email protected]