احتفل معرض مدينة كولونيا الدولي المعروف باسم «آرت كولون» في ألمانيا بمرور خمسين عاماً على افتتاحه. هو أقدم سوق عالمية للفن الحديث والمعاصر. شاركت فيه هذا العام 214 قاعة عرض (غاليري) من 24 دولة بأعمال من كل أنواع الفن التشكيلي وحتى الفيديو. بين كل هؤلاء لم أعثر على قاعة عرض عربية واحدة حتى من القاعات القليلة الموجودة في أوروبا إن لم أكن مخطئاً، فهل يعني هذا خروج العرب من سوق الفن العالمي؟ توزعت المشاركات على ثلاثة أقسام: غاليريات، معاصرة جديدة، ومساهمات. تقوم هذه السوق وأمثالها على مشاركة قاعات العرض. كل قاعة تشارك بأعمال من فنانيها بغرض بيع هذه الأعمال. من هنا تلعب سوق الفن العالمي دوراً مهماً في الترويج للأعمال الفنية وتشجيع الاقتناء، والأهم في تحديد قيمة العمل الفني المادية والتي تجد صداها في مزادات الأعمال الفنية المشهورة. فالسوق هنا لا تعتمد على مشاركة الفنان بمفرده، إذ إن إمكانات قاعة العرض المادية والتنظيمية أكبر من إمكانات الفنان الفرد. فضلاً عن ذلك تكون السوق فرصة لعرض أحدث اتجاهات الفن و»صيحات» الفنانين أو جنونهم. بهذا تأخذ السوق زخمها وفاعليتها. تقدم السوق كل عام، بالتعاون مع اتحاد جمعيات الفن الألمانية، جائزة متميزة في النقد الفني قيمتها 3 آلاف يورو، وحصل عليها هذا العام الناقد والأكاديمي الشاب جورج شيللر. لمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للسوق نظم «صندوق موندريان» بالتعاون مع معهد فنون إقليم الفلاندرز معرضاً يسلط الضوء على الفن في العقود الخمسة الماضية. ونظم «الأرشيف المركزي لتجارة الفن العالمية» معرضاً خاصاً، وأصدر كتاباً تذكارياً شاملاً من 400 صفحة يستعرض الأوجه المتعددة والمتنوعة لتاريخ السوق عاماً بعام من خلال نصوص وصور ووثائق وتقارير صحافية. في المقابل قدم قسم «فيلم كولون» الذي أنشئ منذ عامين استعراضاً لخمسة عقود من أفلام الفن. كذلك ضمن احتفالات اليوبيل الذهبي، كان هناك معرض بعنوان «نطاق الراين»، إشارة إلى نهر الراين الذي تقع عليه مدينة كولونيا، أشرف عليه فيليب فيرنكاس وقدم عملين فنيين دالين من كل عقد من العقود الخمسة الماضية ظهرا بتأثير الإبداع الفني لإقليم الراين. كما كان هناك حدث خاص بعنوان «50 عاماً من آرت كولون والحركة الطليعية في الفن المعاصر في بلجيكاوألمانيا وهولندا»، يظهر التأثير المتبادل بين الفنانين من هذه الدول. من بين هؤلاء الفنانين؛ جوزيف بويز، بانامارينكو، روزماري تروكل، مارلين دوماس. من أبرز ما ميَّز سوق هذا العام قيام الفنان الأسترالي المفاهيمي ستيوارت رينهولت (45 سنة) بوضع خمس سيارات صغيرة قديمة ولا تعمل في مدخل السوق كمنحوتات ترمز إلى التقاطع بين الحياة اليومية وعالم الفن. وقد ابتكر ستيوارت حركة غريبة منذ بضع سنوات، وهي تنظيم جولة لمشاهدين عراة تماماً داخل معرضه وهو معهم بالطبع. ويبرر ذلك برفع الحواجز مادياً بين الفنان والجمهور! وقد دعا «آرت كولون» من يريد من جمهوره لمشاركة ستيوارت في جولته «العارية» داخل السوق تحت عنوان «جولة محبي الطبيعة»! أسَّس «آرت كولون» عام 1967 اثنان من أصحاب قاعات العرض الألمان؛ هما هين شتانك ورودولف زفيرنر في قاعة عامة تملكها الدولة على مساحة 10 آلاف متر مربع كانت مخصصة قديماً للاحتفالات والعروض الكبيرة. كان عليهما لكي يحصلا على دعم الدولة لإقامة السوق أن ينشئا مؤسسة تنظمه، لذلك أسَّسا مع 16 من تجار الأعمال الفنية «جمعية تجار الفن الألمان التقدميين». شارك في المعرض - السوق الأول 16 قاعة عرض فقط من مدن ألمانية مختلفة. لم يقتصر المعرض الذي استمر خمسة أيام على عرض الأعمال الفنية التشكيلية، وإنما بدأ ببيع الأعمال الفنية فيه إضافة إلى عقد ندوات للحوار حول الفن والفنانين. جاءت عائدات السوق الأول مدهشة: مليون مارك ألماني! بعد سنتين، عام 1969، جمع السوق بين الفنان الغريب الأطوار آندي وارهول من نيويورك وبين عبقري الفن الألماني جوزيف بويز. أثر السوق في الأسعار: بيع عمل جوزف بويز «الحزمة» بمبلغ خيالي، 110 آلاف مارك ألماني وكان مبلغاً كبيراً جداً أحدث بالطبع ضجة في سوق الفن. كان العمل ذاته غريباً، فهو مكون من ميكروباص مفتوح من الخلف يجر 20 زلاجة على كل منها لفة كبيرة تحتوي على مواد ضرورية للحياة! في البداية، لاقت عملية بيع الأعمال الفنية في مكان عام اعتراض بعضهم آنذاك، واستهجنوا فكرة انتقال قاعات العرض الخاصة لبيع أعمال فنانيها في قاعة عامة تملكها الدولة. أما الفنانون الشباب فقد تحمسوا للفكرة على أساس أنها تفتح لهم باباً لتسويق أعمالهم. كان مؤسسا السوق مدفوعين بالحاجة الملحة إلى إحياء سوق الفن في ألمانيا الغربية. فقد تعثر هناك على رغم أن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شهدت انتعاشاً هائلاً في الفن وتغيرات جذرية في مواقف الجمهور من الفن الحديث. كانت باريس في الوقت ذاته على أعتاب فقدان دورها المحوري كعاصمة للفن الحديث، وكان الفن الفرنسي الحديث على وشك أن يفقد قيادته لسوق الفن أيضاً. وأصبحت نيويورك عاصمة للفن في نهاية الخمسينات من القرن الماضي. بعد الحرب العالمية الثانية فقدت ألمانيا عاصمتها وبؤرتها الثقافية، لكن سرعان ما تمّت إعادة البناء وانطلقت في تكوين مراكز صناعية وتجارية قوية. هذه المراكز ضرورية لسوق الفن كما نرى في مدينة كولونيا. كان إنشاء السوق بمثابة ثورة آنذاك، نقل عمليات بيع وتسويق الأعمال الفنية من إطارها المغلق على قاعات العرض إلى فضاء عام يتنافس فيه العارضون. نجحت الفكرة وتم تقديم شبان أصبحوا في ما بعد من كبار الفنانين. وأصبح الوسط الفني الشاب بأكمله يتركز في كولونيا. بدأت السوق بقاعات عرض ألمانية، ثم بدأت تنفتح على قاعات العرض الأجنبية حتى أخذت صفتها الدولية، وجذبت محبي الفن من دول مختلفة. ولعب «آرت كولون» دوراً محورياً في نمو سوق الفن العالمي، فنشأت بعده أسواق منافسة في مدن بازل ولندن ومياميونيويورك وهونج كونج. جلبت السبعينات من القرن الماضي معها إبداعات جديدة مبالغة في استخدام الجسد، مسرحيات وعروض خاصة قدمتها السوق مسايرة لروح العصر. مع نهاية 1973 حدثت خطوة أخرى لدعم سوق الفن بتأسيس الجمعية الأوروبية لتجار الفن. كان هدفها دعم التوجه الدولي إلى سوق كولونيا وجذب أكبر عدد ممكن من تجار الفن الدوليين للمشاركة فيه. في العام التالي نظمت هذه الجمعية السوق بعد تجديدها. ركزت السوق عام 1977 على الحركة النسوية في الفن. وشهدت في عام 1980 مشروعات جديدة أهمها برنامج لرعاية الفنانين الشبان تحت عنوان «مواقف جديدة»، ما أعطى بعداً طليعياً. بدأ دخول المتاحف في السوق عام 1982 بمشاركة متحف الفنون في بون بأعمال من مقتنياته. وفي عام 1984 تغير اسم السوق إلى اسمه الحالي «آرت كولون». شهدت السوق عام 1990 توسعاً في صالات العرض مع تجديدها واستخدام التكنولوجيا الحديثة، وزيادة في عدد العارضين (الجاليريات) وصلت الى 268. وفي العام التالي تأسس أرشيف مركزي للسوق. وصل عدد الأعمال الفنية المعروضة في السوق عام 1995 إلى 27 ألف عمل. على رغم ذلك سجلت فترة التسعينات بداية غياب العديد من العارضين المشهورين عنها وتوجههم إلى إقامة معارض فنية منافسة له. كما بدأ آرت كولون يعرف منافسة أسواق أخرى وبخاصة سوق «آرت بازل» السويسري، تأسست عام 1970، والتي تعد اليوم السوق الفنية الأكثر شهرة في العالم، فهي تنظم أيضاً سوقي الفن في ميامي الأميركية وهونج كونج. استمرت الأزمة حتى عام 2008، حينها جاء خبير المعارض دانييل هاج كمدير للسوق واكتشف الأخطاء وأصلحها جاهداً في إعادة المكانة إليه، واستعاد قيمته العالمية بالفعل. نشط في معرفة مقتني الفن المهمين في العالم ودعوتهم إلى السوق. نجاح «آرت كولون» لا يعبر فقط عن رواج الفن الحديث والمعاصر أو التجارة فيهما، بل يعود أيضاً إلى قوة ألمانيا الاقتصادية، وعلى الأخص في إقليم الراين الشمالي - وستفاليا والأقاليم الاتحادية المحيطة به، التي تركز في شكل كبير على التجارة والصناعة وكذلك على اقتناء الفن. الأمر الذي يذكّرنا بما يحدث في دولة الإمارات العربية وبخاصة في دبي، التي أقامت معرضها الدولي للفنون في أوائل نيسان (أبريل) الحالي. فهنا وهناك تعبّر سوق الفن عن قوة الدولة الاقتصادية، مثلما تعبّر عن ازدهار الاقتصاد العالمي أو تراجعه، في الوقت الذي تعرض المتغيرات في عالم الإبداع التشكيلي.