كثيراً ما تساءلت عن غياب الرواية في المغرب عن مدينة مراكش، ومن جهة أبنائها خصوصاً، وبقاء الكتاب الأجانب يحتكرون معالم هذه الحاضرة، ناسها وطقوسها وكل ما تزخر به من حكايات ونفائس على مر الأحقاب، حتى صار بعضهم معروفاً بها وهي مقرونة به. أقتصر على ذكر النوبلي الألماني إلياس كانيتي(1905 - 1994) في كتابه الرِّحلي المشهور «أصوات مراكش» (1968)، والكاتب الإسباني خوان غاوتي سولو (1931) الذي عاش هنا ولا يزال، وعنها وضع روايته «مقبرة» (1980). كنت ألتمس الجواب لتساؤلي، وأقتنع به قائلاً إنّه من التحدي بل الاستحالة أن تكتب رواية عن مراكش وأنت ابنها وسليل فضائها وثقافتها، لأنها بطبيعة ساكنتها، وطقوس عيش أهلها، وانتساباً الروافد القبلية التي صبت من كل نواحي جنوب المغرب والتقت في واحتها، ومختلف ما عرفته من حوادث التاريخ وتسلسل الأسر الحاكمة والثقافات والمعتقدات والغرائب والأهوال؛ بسبب هذا كله وغيره كثير وعجيب، هي بمفردها مجرى حكايات كيف لك أن تلتحق بها، وأقصى ما تستطيع، إن استطعت، أن تسبح في مجراها وتتقلب في تياراته متدافعة وساكنة، هادرة وحالمة، موقنة وشاردة، باسمة وهي مدلهمة، كلها أصوات وصور وألوان بلا حدود، تمشي فيها كأنك في حلم أو إنك مسرنم. مراكش حكاية وحكواتي في آن، وسردُها من شدة فتنتها وسلسبيله معجزٌ أو يكاد، أو ليست ساحة (جامع الفنا) قبلة المقيم فيها والزائر، معدودة اليوم جزءاً من التراث اللامادي في تصنيف اليونسكو باعتبارها من محافل الحكي والفرجة (الفطرية) الكبرى في العالم؟ وهي المدينة التي يطرقها الرواة والفقهاء والعشّابون والدّجالون والحُواة، ويختلف إليها كل باحث عن سلوى أو من أبناء السبيل، فيجد فيها بُغيته، يُداوي حرمانه أو إحباطه بمزيد حلم ومَراهم أوهام. تسري في مسمعه الكلمات تلو الكلمات، والصور أطيافاً وألواناً، أوتاراً وأذكاراً، حُوراً عيناً وولداناً بين أرض وسماء، جنة ونار، إنس وجان. من يجرؤ إذن على هذا الإعجاز ليأتي بأعجز منه، بخاصة يكاد يكون من نفح سماوي، مجلل بالخرافة والأسطورة، وعلى رغم هذا يقيم متمكناً في العقول والأفئدة حقيقةً عنيدة لا تتزحزح، من يفعل؟ الحال والمقام كأنما حيّر السؤال معي الكاتب ياسين عدنان، لم يجد له الجواب بين قصائده بالتفعيلة ومن دونها، بالقصص القصيرة، تخفّ أو تثقل وفق مقتضى الحال والمقام، فقال أجرّب وأُقدم على الرهان، اقتحمَه برصيد أنه ابن مراكش، رضع حليبها كأنه حليب السباع، وتشرّب نطقها ومغناها، وارتاد مجالسها واختلط بأطيافها، كما احترق بصهدها وطرب في نزهاتها. قال أجرب الرواية، وفي ضميمة وعيه/ لا وعيه، أني سأجمعها كلها في كتاب، سآتي فيه بالعجب العجاب، لن أغفل فيه من شؤون مدينتي لا القشرة ولا اللباب، ومن كذّبني ليرافقني في روايتي «هوت ماروك» (الفينيك،2016)، هي كالعرب بالباب، ليس دونهم حجاب! في «هوت ماروك» (المغرب الساخن)، يقدم الكاتب رواية مراكش، من منظوره، مجسدةً ومباحة من خلال مجموعة شخصيات ووقائع ومحكيات واستطرادات وخطب وأشكال من الفرجة والهرج بلا حدود. ومركزياً، من خلال شخصية المسمى رحال العوينة، الطالب الجامعي، الذي يفشل في دراسة التاريخ فينتقل إلى شعبة اللغة والآداب، مندسّاً بين صفوف الطلاب بتنظيماتهم المختلفة بين يسارية ويمينية ودينية. في تنقله ترتسم صورة بانورامية للوسط الطالبي، وجو التدريس، والخطابات الرائجة (في العقد التسعيني) بريشة كاريكاتورية ومنظور تسفيهي. تضع الرواية عمودها الفقري، في سردية خطية تستمر بعد تخرّج رحال وانضمامه إلى جيش العاطلين وزواجه من حسنية، زميلته المحجبة، كلاهما من أسرة معوزة، فيعملان معاً في مدرسة خصوصية، من باب الإحسان، بخاصة للزوج رحال، الذي ينتقل إلى الإشراف على محل (سيبر) في ملك مدير المدرسة. ما سيصبح بؤرة الرواية حولها تدور وتلتقي وتتفاعل بؤر صغيرة أخرى، بشخصياتها وهمومها وطرافاتها. يتخذ عدنان من هذه البؤرة مرآة تنعكس عليها وتصدر في آن صورة شمولية لأحوال الزمن والمجتمع المغربي، عقلية وأخلاقاً وسلوكاً، معنية بالبيئة المراكشية، وعلامة وامتداداً منها إلى بيئة أوسع؛ إلى المجال الأمني والسياسي المهيمنين، حيث يظهر الجهاز المخابراتي مخترقاً كل الأوساط، بدءاً من الطالبي، وهو ما يتحكم في مصير رحال ويقود حياته. أما السياسي فهو مجسد بواقعية فجّة وكاريكاتورية بكليشيهات الانتخابات التشريعية كما عاشها المغاربة وبالصور والأفعال الفضائحية المقترنة بها، المضحكة، المبكية. يجني منها عماد القطيفة مدير المدرسة وابن العائلة الغنية مقعداً في البرلمان. وإلى جانبه يكسب اليزيد، يجسّد البهلوانية والبلطجة، وحوله شخصيات صغيرة نسوةً وذكوراً من داخل السيبر وحوله، ذات نزوات وبمِحن، في هيئة فسيفساء مصنوعة من صور البؤس والعاهة والخلل والاستسلام والعجز والحرمان والانتهازية والزور، والفساد الأخلاقي. هي غدران المعاني الصغرى تصب في مجرى نهر نثري تارة يتدفق منقاداً وتارات يفيض تتدافع فيه خُطب الكاتب مباشرة هذه المرة عن أوصاب العباد والبلاد، من كل ضرب، ثم ينزل من منبر خطابته ليتولى مصير شخصيات (من قشّ)، منها بطله الأساس رحال، قد استسلم لقدره، يتحول إلى مخبر، ومعه (السيبر) إلى فضاء لتحريك شخصيات افتراضية من صنعه تبعث رسائل وتصنع شبكة علاقات، مصائد لخدمة الجهاز وتتبع تفكير الرأي العام (أبو قتادة؛ ابن الشعب). هو مغلوب على أمره، بين زوجة مدير تحتقره، وزوجة لا تبالي به، وتقنّن حتى معاشرته، وعائلة مفكّكة الأوصال، يعيش بلا طموح، ويعي جيداً أنه خارج الحياة كما يعيشها الآخرون، ويتطلعون إليها. الحلم وحده يسعفه، يحقق فيه البطولة والقصاص من هوانه. ثم إنه قبل هذا وذاك ليس أكثر من صورة سنجاب، أقرب إلى حيوان. رؤية بارودية في هذه الرواية، عمد الكاتب إلى قرن اسم كل شخصية بحيوان: عبد السلام، أبو رحال (السرعوف)؛ حليمة، أمه، (البجعة)؛ حسينة، زوجته (القنفذ)؛ الصحافي نعيم مروزق (الضربان) ؛ الصحافي ميمي (النمس)الخ... وهي حَيْونةٌ تنسجم والرؤية العامة لهذا العمل، التي هي رؤية بارودية من البداية إلى الختام، بل إنه تحصيل حاصل أن الباروديا بوصفها تسفيهاً وأسلوب سخرية مقيتة تصطبغ بها كل الشخصيات، تمرّغهم في حمأتها وتخضعهم سلفاً إلى ألعوبانيتها وبهلوانياتها في استخفاف بيِّن، بهيئاتهم وطباعهم تُماثل ما لحيوانات من قبيلهم. هكذا تنسجم هذه الخطة (رسم الحيْونة، بمرادفاتها)، أيضاً، مع روح، هوى المدينة التي سعى ياسين عدنان أن يحتويها في وعاء رواية، هي التي تستعصي، من قوتها الحكائية على السرد والمحاكاة، فغلبته، قل فضحته ثقافتُها المبنية على أقنوم معلوم لدى أهلها وبطبعهم وعيشهم لصيق، يسمونه (المشخرة) أو المسخرة بتصحيف حرف الشين، وهو أسلوب يجمع بين السخرية والتفكّه وينطوي على النقد اللاذع واللمز والإشارة، جاءت بالفطرة أو بالمكر. بهذه الروح كُتب هذا النص، وعلى خطته سُرِد، وداخل رؤيته انبنى عالمه الحكائي، بشخصياته ومكوناته المختلفة، وتراكمت معانيه المبذولة في الشارع، إنما فات كاتبه أن هذه الروح كانت وتبقى شفوية، أو بالأحرى هذه طبيعتها، أو لا يكون سرد مراكش، حكيها، وأن يجد لها المعادل الكتابي في الرواية، فذا رهانُه الأكبر والأصعب. لكنه عمد إلى العكس تماماً، أمسك بالسرد، كاتباً، من أول خيط إلى نهايته تقريباً، لا تفلت منه شاردة ولا واردة، لا حسٌّ ولا آهةٌ إلا بنفَسه وقلمه، في سيطرة مستبدة بشخصياته، هو من تولى رسمها وشرح طبعها ونهج فعلها، وقيادة مصيرها المرسوم لديه سلفاً، لأن ما يعنيه بدءاً وسلفاً، أيضاً، هو انسجامها مع قالب الباروديا، مع «إستراجيتها» الساخرة، المقيتة، الهجائية، الفاضحة المهوّلة. الباروديا ليست معنى ودلالات، إنها شكل. و«المشخرة» المراكشية مثلها شكل، إذا اختلّ عنصر منها ضاعت، لأنها بنية فنية ثقافية، فهي مبنية على الاقتضاب والإيحاء والغمز لا بالخطب العصماء، والتقارير الضافية، ولغة التبكيت والنّحي باللائمة، وما شابه، تعجّ بها «هوت ماروك» تريد أن تختصر المغرب الحديث بأهله وأمراضه في رواية، وللرواية أن تتسع (قشابتُها) جُبتها لكل شيء، حتى للمسايفة، تقاتل في كل الحلبات وتصفّي الحسابات، حساب السقوط، ذات اليمين وذات الشمال، لم يسلم من لسان كاتبها الخطيب - لا ساردها - أحد، فلا يبقى إلا وحده، طاهرَ السريرة، نظيفَ اليد، أبيض كالملائكة! بيد أن «هوت ماروك» تحدد خريطة لعبها - الروائي - بخطوط ومقاسات لم تستعملها بعد الرواية المغربية، فتقتحم، أولاً، الفضاء الرقمي، جاعلة منه باقتدار أداة ومحركاً في البناء الروائي وعوالمه. وهي تدخل شخصيات عادية، لا نمطية، لتؤدي أدواراً حيوية. وهي تعطي لما يسمى الهامش الصدارة، فيغدو هو المركز وحكاياه وهمومه الأجدر بالسرد والحبك. وفيما هي مكتوبة بفصحى متينة ومشرقة، فإنها تتكلم لغة (الشارع) لتعبّر أحياناً أفصح. وهي أخيراً وليس آخراً، تظهر أن مراكش، والمغرب كله، طيِّعٌ للسرد الجميل في اليد الماهرة.