قد ننزعج نحن معشر المثقفين من ثقافة كرة القدم السائدة أينما تلفتنا، لسبب نجتمع حوله، وهو ضيقنا بأشخاص يحققون شهرة ودخلاً كبيرين بسبب حسن استخدامهم لأقدامهم، بينما ومهما حاولنا نحن استخدام عقولنا بطريقة ذكية ومشروعة، فإنه يندر أن يتهافت علينا أصحاب العقود ليعرضوا الرواتب الضخمة والامتيازات التي تسمح لنا بالتقاعد لاحقاً والعيش بمستوى مادي شبه لائق. إنه حسدٌ لا يخلو من إعجاب أحياناً، ففي عالم الكرة ما يدعو الى التأمل والدراسة. أول ما يلفتني في كرة القدم ذلك الحسّ الجماعي في فعالياتها، أصوات المعلقين وضجيج الملعب يتسرب من أجهزة التلفزيون والإذاعات، وصوت البهجة يُسمع متسللاً من شبابيك البيوت ومقاهي الحي، فرحاً بتحقيق هدف، والبشر قلما يلتقون محلياً وعالمياً على بهجة مشتركة، وقلما يشهقون انتشاءً في اللحظة نفسها. لقد باتت كرة القدم أشبه بالفلكلور الشعبي، ففي أي حارة بسيطة في العالم يمكن أن نرى أطفالاً يتبارون بكرة تقاسموا ثمنها، في ملعب محدود تخيلوه واسعاً، ومرمى تحدده حجارة وخشب عشوائي. من خلال «الركبي»، اللعبة التوأم لكرة القدم، وحّد نيلسون مانديلا في أواسط التسعينات شعبه المقسوم بين بيض وسود، حتى فاز فريق بلاده بكأس العالم، فقبّل الأبيض الأسود والعكس، ابتهاجاً بفوز محسوب على كل جنوب افريقيا. وها هي بلاده بعد خمس عشرة سنة توحد العالم باستضافتها لنهائي المونديال. من جهة أخرى وبحسب كتاب «الكرة ضد العدو» للصحافي البريطاني سايمون كوبر، انجذب بن لادن الى أصوليته ومنها الى تكوين «قاعدته»، عندما سرّب استاذه له ولزملائه الصغار أفكاره المتشددة وهو يدربهم على كرة القدم. ومما يعجبني في ثقافة الكرة أيضاً، تلك المنافسة الشريفة التي تجعل من مباريات كرة القدم بديلاً ايجابياً عن الحروب والمواجهات العسكرية بين الدول، ينفّس البشر من خلالها عن الطاقة الهادرة في النفس والجسد. وهذا ما نراه في قرع الطبول ورفع الشعارات راياتٍ وقمصاناً تهفهف باسم النادي وبلده، وفي الألوان على الوجوه مستمدة من علم الدولة توحد ملامح الجمهور المشجع الذي يبدو جمعاً لا يحتكم بعمر ولا بجنس، فالكل هناك، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، يهتف ويردد الأناشيد الوطنية ويشعل الحماسة بإيقاعات وأغان يخترعها أحياناً، أو يستعيرها من تراثه وتراث فرق الشعوب الأخرى. ثمة حروب صغيرة تستحثها الكرة وهي استثناء، مثل التوتر الذي طرأ على العلاقات المصرية الجزائرية بسبب الكرة، الا أنه بات يتضاءل أمام حقيقة أن الجزائر هي الممثل الوحيد للعرب في المونديال، وعليه فقد أعلن نجوم كبار، أمثال عادل إمام وصلاح السعدني ومحمد صبحي ويسرا وعزت العلايلي وأخرين، أنهم يشجعون الفريق الجزائري في نهايات كأس العالم، بحسب ما ورد في موقع «العربية». المثقفون يؤيدون الكرة اذن عندما يتعلق الأمر بالسياسة والحس القومي. وهذا لا يمنع أن أدباء بارزين أحبوها، مثل نجيب محفوظ وباولو كويليو. ويُنقل عن الشاعر الراحل محمود درويش الذي عرف عنه حبه للكرة، أنه وصفها ب «أشرف الحروب». المباريات على أنواعها ضرورية للعالم، والبشر عموماً في حاجة الى الشعور بالنصر، أياً كان هذا النصر. ربما هو شعور ورثوه من زمن الغزوات والحروب الكبرى والرغبة في الهيمنة على محيط أكبر من محيطهم. فلتكن تلك الوجاهة اذن في ملاعب الكرة الشاسعة، أمام جماهير عظيمة وشاشات تنقل لحظات الصراع الرياضي المشروع، بدل شن حروب ما عادت تفرز أي منتصر حقيقي. وليفز البعض بالكأس الذي يختزل كل مغريات الفوز بحجمه الصغير الذهبي البراق، بديلاً من غنائم الحروب التقليدية. بل أن كرة القدم تسمح بتحقيق نصر لدول فقيرة من العالم الثالث على دول غنية وقوية، وفي هذا كل العدل الذي لا يتحقق على مستويات أخرى. أما داخلياً، فيقوم الفوز الكروي مقام الأدوية المهدئة او تلك التي تجلب النشوى، حين يتحد الشعب من بعد تفرقة بين طوائفه، أو يلتزم بهدنة موقتة مع حكومته كي لا تتشوش في دواخله بهجة الفوز. ومن هنا يعتبر البعض كرة القدم أفيوناً جديداً للشعوب، يُشغل به الشباب بعيداً من مطالب لقمة العيش وفرص العمل وحرية الرأي. وهذه من السلبيات التي يمكن ان تحسب عليها، والتي من بينها أيضاً أن الأندية باتت تُستخدم في أغراض أخرى غير الرياضة. لكن ألا يطال الفساد وسائل الترفيه والإعلام وتستخدم أحياناً واجهة لأمور غير مشروعة؟ في نهاية الأمر يبقى أن للعبة قوانينها المتشددة التي تفرض قواعد السلوك بين اللاعبين، فتطلب منهم الاعتذار عند استخدام العنف، عمداً أو سهواً، وهو ما نحسد اللاعبين عليه نحن معشر المثقفين الذي لا نرى في ساحاتنا بطاقات حمراء ولا صفراء، ولا مناطق جزاء، ولا طرد من ملاعب الكتابة ان تجاوز واحدنا حدود اللياقة في حواره مع الآخر. أين معاركنا الجوفاء من معارك ساحة الملعب! كرة القدم تُلعب أمام العيان والإبداع فيها لا يقبل الغش، والفساد في كواليسها لا يطول أمد سرّه، بينما عالم المثقفين ينوء بالدسائس والحروب الخفية. لذا يكاد الحسد من عالم الكرة يصل الى حدّ مطالبتنا «الفيفا» بالتدخل لتنظيم مهرجاناتنا ومنافساتنا. وفي المقابل، سنصبر حتى تنتهي المباريات بسطوتها على فضاءاتنا الخاصة، وسنتسامح مع ضجيج المشجعين المريدين ونعترف بحقهم في هذه المتع الصغيرة، وقد كادت حياتهم ان تخلو منها في السنوات الأخيرة. * كاتبة سورية مقيمة في بريطانيا