لم يترك الشاعر اللبناني خليل حاوي المولود عام 1919، والذي انتحر عشية دخول إسرائيل إلى بيروت في السابع من حزيران (يوينو) 1982 كتاباً في النظرية الشعرية. إرثه خمسة دواوين هي «نهر الرماد» (1957) و«الناي والريح» و«بيادر الجوع» و «الرعد الجريح» و«من جحيم الكوميديا»، أصدرها على امتداد خمسة وعشرين عاماً، إضافة إلى محاضرات كان ألقاها على طلابه في الجامعة الأميركية في بيروت حيث درس الفلسفة والمذاهب النقدية، و63 حواراً صحافياً موزعة ما بين العام 1965 وبداية الثمانينات، وهي حوارات فيها الكثير من التكرار والاستعادة. ولو أضفنا الى ذلك كلّه أطروحة الماجستير التي قدمها بالعربية حول العقل والنقل بين الفيلسوفين الإسلاميين ابن رشد والغزالي (صدرت حديثاً عن دار نلسن بيروت)، وأطروحة الدكتوراه بالإنكليزية حول جبران خليل جبران في جامعة كمبردج، لكان بين يدينا تقريباً إرث خليل حاوي الشعري والنظري بكامله. وكان حاوي كما هو معروف، ينفر من مجلة «شعر»، من يوسف الخال وأدونيس بالذات، ويعتبرها لا تصب في الاتجاه العربي الذي كانت تنادي به الآداب. ومن خلال حواراته التي جمعتها وقدمت لها تلميذته الباحثة ريتا عوض، وصدرت أخيراً في كتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ( 201) بعنوان «حوارات خليل حاوي»، يظهر أن مجمل آراء حاوي في الشعر والشعراء والنقد والثقافة، يمكن اختصارها بخمس صفحات تستخرج من كتاب في 450 صفحة. وأعتقد أن جهد عوض في كتابيها المتعلقين بما قاله أو كتبه الشاعر من آراء، وهما «خليل حاوي: فلسفة الشعر والحضارة» (دار النهار – 2002) مع مقدمة من نديم نعيمة، والكتاب الذي بين يدينا الآن، قد لا يكون جهداً يتبناه الشاعر الراحل صاحب المزاج الحاد والرافض للكثير مما يعرض عليه سواء في النقاش أو الكتابة. المزاج الصعب من يعرف خليل حاوي عن كثب، يدرك المزاج الصعب الذي يحمله. وأن هذا المزاج مرسوم على جبينه، ومعقود في فمه على صورة اعتراض مفتوح حول كل ما تقول أو ترى. ويتلخص بكلمتين يرددهما دائماً هما بالمحكية «كيفْ شِكْل»، أي بأي شكل؟ وقد سمعت منه هذه العبارة في بعض لقاءاتنا في أروقة الجامعة الأميركية. وكان لديه وسواس شعوري بالاكتمال، ولا ينام الليل إذا وقع خطأ في كتابة كلمة أو حرف من دواوينه. وقد قال لمحمد العبدالله في حوار معه لجريدة السفير بتاريخ 25 أيار 1978: «إني أعيد النظر في موقفي مراراً في اليوم الواحد وأحاول أن أبرر وجودي» (ص 375). قد نجد في التركيب النفسي لشخصية خليل حاوي ما نفترضه في تحفظه على نشر كتابين بعد موته، لم يكتبهما هو بقلمه ويصححهما ويصوبهما ويقلق طويلاً عند ذهابهما إلى المطبعة. ومع أنه لم يقم في حياته بترجمة أطروحته بالانكليزية عن جبران، قامت ريتا عوض بترجمة جزء من هذه الأطروحة إلى العربية وضمنتها كتابها «خليل حاوي، فلسفة الشعر والحضارة». وهو لم يقم بجمع وتنسيق محاضراته في المذاهب النقدية والفلسفية التي كان يلقيها في الجامعة الأميركية ليصدرها بكتاب على حدة. ولو كان فعل ذلك، لكان الكتاب الذي يصدر عن الرجل مختلفاً عن تجميع محاضرات متناثرة له ومتباعدة. لأن الكتاب في النظرية هو غير محاضرات أو كتابات متفرقة مجموعة. جهد ريتا عوض في كتابها الأول «فلسفة الشعر والحضارة» جهد صادق ومخلص للشاعر والأستاذ، لكنني أتخيله على رغم ذلك، معترضاً على ما قامت به تلميذته، وقد انعقدت على جبينه تجاعيد السؤال، وفي فمه جملته المعروفة «كيف شكل؟». بل إن هذه الجملة المعترضة ستتسع أكثر وتصل إلى حد الوسواس الشديد تجاه كل المقابلات التي أجريت معه، ونقلتها المحررة والباحثة بصدق من صفحات الجرائد والصحف أو مدونات المؤتمرات إلى الكتاب. شجعها على ذلك وقدم لها المادة الصحافية كل من طبيبه وصديقه نسيب همام وشقيقه الناقد إيليا حاوي. ذلك أن هذا الصدق بذاته وهذه الأمانة، تجاه ما كان يقوله في لقاءات صحافية أو كأجوبة شفهية على أسئلة بعض محاوريه هما المشكلة تجاه شاعر ومفكر مهووس بالعمق والدقة. الى حد تلقين محاوره سؤالاً في ما كان يرغب الكلام فيه. أو أنه كان يقوم بالرد الخطي على بعض الأسئلة. الشاعر- الناقد ترى ريتا عوض في مقدمتها للحوارات أن خليل حاوي يمثل مصطلح الشاعر- الناقد. وهو مصطلح نقلته الباحثة عن الإنكليزية، بمعنى من تندمج في عمله وتنعكس العلاقات المتحولة ما بين الشعر والنقد، ممارسة فن ما ونظريته» (ص27). ويعود هذا التعريف إلى لبكنع الذي استعمل العبارة وأسس النظرية، معتبراً أن الشعراء النقاد المحدثين همهم ليس وصف الشعر بل تغييره، وأن كل تغيير كبير لا بد أن يؤكد بإحداث ثورة في الأسلوب. ما يقتضي إزاحة الرموز الشعرية السابقة. وعلى هذه المبادئ الأولية للشاعر- الناقد، أسس خليل حاوي شعره وأفكاره النقدية. فكان يرى أنه مناط به إحداث ثورة في الشعر العربي، تكون شبيهة بثورات شعراء النهضة الجديدة في أوروبا. وأنّ شعراء هذا التحوّل المفصلي لا يعبرون في شعرهم عن ذواتهم المنغلقة بل يعبرون عن روح النهضة في الأمة. وهي روح بدائية خام عنيفة وأسطورية في وقت واحد. وفي هذا السياق، يقول الشاعر الإيرلندي سنغ: «إن على الشعر أن يكون عنيفاً قبل أن يكون جميلاً أو إنسانياً». من هنا جاءت بدائية قصائد ديوانه الأول «نهر الرماد» ( 1957) وعنفها. لقد بدأت هواجس الانبعاث العربي لديه مع ولادة قصائد «الناي والريح» (1961)، تحديداً في قصيدة «الرحلة الثامنة للسندباد»، فهي قصيدة ذات بناء أسطوري شعبي، وإبحار داخل الذات الجمعية وتحمل بذور أمل في الوصول. لكن سرعان ما انطفأ ضوء اليقين في نفس خليل حاوي وغلبت عليه الظلمة القاتمة وهواجس الانبعاث الكاذبة. فهو يردد في حواراته هذه الهواجس، وحين كتب قصيدته «اليعازر»(1962)، وصف عجز المعجزة التي تقول أن المسيح أحيا أليعازر من الموت، فإن اليعازر ذاته لم يرغب في العودة الى حياة كاذبة وخلبية. واشتد خناق اليأس على خليل حاوي حتى انتحر. كان الشاعر غالباً ما يردد كلمة «الرؤيا» في حواراته. وفي تعريفه للشعر على أنه «رؤيا تنير تجربة وفن قادر على تجسيدهما» (ص 308). لذا كانت السمة التي ينفرد بها الشعر تنحصر في طبيعة تلقي الرؤيا والتعبير عنها. وهذا أمر تنبه إليه أرسطو حين قرر أن الشعر يعادل الفلسفة في الكشف الكلي المطلق. يكرّر حاوي في حواراته عبارة «الشاعر فيلسوف نفسه»، ويعول في بناء القصيدة الحديثة على استعمال الأسطورة الشعبية كمرجع تكويني للقصيدة الكلية. كما يعتبر الايقاع المتمثل بالوزن من ضرورات الشعر وأن هذا الإيقاع الوزني هو أساس تجربة كبار الشعراء مثل ييتس وريلكه و ت. س. إليوت. وأن في أضخم قصائد النثر التي كتبها سان جون بيرس مثلاً، ثمة إيقاعاً خفي من توازنات لغوية دقيقة يسميها دارسو الشعر VERSET . أما قصيدة النثر، فهي برأيه صنعة العاجزين عن كتابة القصيدة. وحيث إن كل شاعر مفصلي حديث ملزم بإزاحة رموز شعرية سابقة أو معاصرة، فقد انتقد خليل حاوي بقسوة رمزية سعيد عقل الذي لم يفهم مالارميه ونظريته في الشاعر الخالق، فابتلي «بالتورم والتجوف» (ص 174) وينعته ساخراً بأنه من «الشعراء البلابل» الذين يغنون لأنفسهم ولبعض مفاتن المرأة الخارجية (ص 111). ولم تسلم منه جماعة مجلة شعر، بخاصة أدونيس. فاعتبر أثر الشعراء الغربيين في شعره يظهر على صورة طبقات. واتهمه بأنه أخديوانه «القصائد الخمس» (1979) عن هنري ميشو. مال خليل حاوي في أواخر أيامه إلى العدمية وانتابه الإحساس بأنه ليس سوى نقطة وهمية في وهم كبير هو الحياة. وذلك لأنه، وكما وصفه أنطون غطاس كرم في تقديمه له في إحدى الأمسيات الشعرية «الذات الضائعة في أمة منحلة».