هذه المقالة احتفاء قدر استشراف في نفس الوقت، لمرارات تاريخ الشعر وتحولاته العسيرة، لصدور كتاب من جزءين عن الشاعر والمفكر محمد العلي، الأول: مختارات (شعر، مقالات ومحاضرات) والثاني: دراسات وشهادات (مجموعة من الباحثين والنقاد)، عن دار المريخ - 2005، أعدتها: عزيزة فتح الله. ..برأيي أن ثلاثة كان من الممكن أن يكونوا هم رواد لحظة الحداثة في السعودية منذ زمن الخمسينات لا منتصف السبعينات كما حدث (بل يحدث دوما)، عبر الأدب: شعراً أو رواية أو سواهما، ولكن كلامنا هنا على الشعر فمن أعنيهم: محمد العامر الرميح (1929-1978) المتوفي نفسه باكراً، عبدالرحمن المنصور (مو: 1925) المرتكن إلى عزلته بعد خدمة تربوية أنهكته وأنسته، ناصر بوحميد (مو:1931) الصامت حتى الآن أنتظره، حيث هطلت حارقة المقدمات النظرية التمهيدية بإطارها الفلسفي، عبر صوت عبدالله القصيمي (1906-1996)، قاذفة أسئلة الحداثة عبر مفاهيم اجتماعية وفكرية تنتقد أيديولوجيا الفكر الأحادي واحتكار الحقيقة الذي قاد إلى الإقصاء والإرهاب: «هذي هي الأغلال - 1946» (التي سوف تتطور فيما بعد لما يخص الشعر في كتب لاحقة، مثل: أيها العار إن المجد لك - 1971 والعرب ظاهرة صوتية - 1977)، داعية إلى العلم وتسريح المرأة. حينذاك لم يستمع الشعر في نجد، لا في كلاسيكيته أو رومانسيته أو حداثته (شعراء نجد المعاصرون، عبدالله بن إدريس، النادي الأدبي، ص 37)، أي صدى بالذات إلى أطروحات العواد النرجسية: «خواطر مصرحة - 1927» لمحمد حسن عواد، كذلك كتاب: «التيارات الأدبية في قلب الجزيرة العربية- 1959«لعبدالله عبدالجبار (لازال الجزء الثاني المتعلق بالمقالة غير منشور على أن صلاحيته التاريخية انتهت) أو كما يعلق أحدهم في شهادة ثقافية عن أشخاص تلك الفترة أو رموزها الثقافية الناقصة: «وذلك لانكسار شحاته (حمزة) وانسحابه أولا ثم لتواضع تجربة العواد، ومثلهم كان عبدالله عبدالجبار، صاحب الريادة النقدية، لأنه كتب عمله النقدي الريادي في القاهرة (محاضرات قدمها لطلبة معهد الدراسات الحربية العالية 1959-1960:المحرر)، (..)، ولكن كتابه لم يصل إلا إلى الخاصة، وظل بعيداً عن مجريات الأمور، فلم يؤد فعله التأثيري في حينه. «(حكاية الحداثة، عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي - 2004، ص:66). لماذا نذكر هذا الكلام تقديماً ملتهباً؟. لأننا عندما نطالع ديوان :« قلق - 1960، دار الكاتب العربي «لناصر بوحميد (ثمة ديوان وعدنا به لم ير: «بحيرة الدم «منذ صدور الأول)، أو ديوان: «جدران الصمت - 1974، منشورات الأديب «لمحمد العامر الرميح والمقدمة - البيان للشعر الحر أو القصيدة النثر التي استلمها من كتابه السابق: «قراءات معاصرة - 1972، منشورات الأديب «(كذلك وعدنا بديوانه: «أنا» والآخر: «قصائد صبي مراهق «أين هما، لا نعلم؟)، أو القصائد التي نشرت لعبدالرحمن المنصور في صحف ومجلات زمن الخمسينات (لازال ديوانه: تمرد، مخطوطة ليته ينشره). سنكتشف أن بوحيمد والرميح يلتقيان في أثر جبراني خطير - نسبة لجبران خليل جبران - متلاقح وتعريب: فليكس فارس، لكتاب فريدريك نيتشه: «هكذا تكلم زرادشت - 1935» (التي تأثر بها الفيلسوف عبدالله القصيمي، كذلك أدونيس شاعرا)، ولكن يفترقان في تشكيل شخصية بدت واعدة لكليهما في أثر الأخطل الصغير على شعر بوحيمد، وأثر نزار قباني على الرميح، (كمثل أثر سعيد عقل على أدونيس وفؤاد سليمان أو إلياس أبوشبكة على أنسي الحاج) نحو خلق قصيدة نثر جاءت على أنقاض مفهوم الشعر الحر عند أمين الريحاني ثم جبرا إبراهيم جبرا. أما القصائد (المبنية على نظام التفعيلة) التي اختيرت للنشر للشاعر عبدالرحمن المنصور تقتفي أثرا مباشرا من بدر شاكر السياب، مثل :«ميلاد أنسان» أو نازك الملائكة، مثل: «الأصدقاء» (عبدالرحمن المنصور، محمد السيف، نشر خاص - 2003،ص :26-31)، كما يصرح المنصور في ذات المصدر عن أثر الشاعر محمد العلي، التي حسمت موضوع تبديل نظرته الجمالية للشعر شكلاً ومضمونا، عبر ديوان: «شناشيل ابنة الجلبي «لبدر شاكر السياب (محمد العلي: شاعراً ومفكراً، عزيزة فتح الله، المريخ - 2005، ص: 547-548). إن كل ما سبق تؤكده الشهادة الخطيرة والجريئة عن الإطار النظري الذي لم يستمد من الكتب النقدية التي قدمها العواد (خواطر مصرحة - 1927) أو عبدالله عبدالجبار (التيارات الأدبية - 1959): «(تلك) الحماسات المخلصة للعواد لم تكن بكافية لتأسيس وعي نظري أو إبداعي فاعل لضعف مادته وتواضع معطاه، ولم إحساسنا به بسبب وجود وعي ثقافي عربي متصل بنا ومتفاعلين نحن معه ولم تكن تجارب العواد على مستوى مجاراته أو منافسته «(الحداثة - الغذامي، مرجع سابق، ص: 63). ..السؤال المطروح الآن على حيزين : ..لماذا لم تحاول بدايات بوحيمد، الرميح والمنصور إلى تجربة تتراكم (لأنهم انشقوا جسارة على الواهية الرومانسية: عبدالله الفيصل ومحمد الفهد العيسى ثم حمد الحجي وسعد البواردي )، فما الذي منع بوحيمد من صدور ديوانه الثاني كذلك المنصور (أي ديوان !) إذا ماكان عذر الرميح فوق إرادته (حيث توفي - 1980 أو 1978)، لأنهم سيكفون التالي وزرا لم يكن لطاقتهم أن تحمله؟ . ..يلقي محمد العلي إجابة مبدئية تبدو مهمة في وقتها (لقاء الراية القطرية 19 فبراير 1980)، لأنها مسوغ سوف يبرر ما تأخر من فعاليته الشعرية والفكرية (هو بالذات من ذكرناهم سابقا فقد سبقوه: بوحيمد، الرميح والمنصور )، بكل زخمها الجمالي والإبداعي، لجيل لاحق بدت بوادر تحوله إزاء اقتناعه الانفلات من أسر الرومانسية الكلاسيكية، نحو حداثة كان ظلاله فيها كبير على جيل (أو ربما جيلين يعترفان بذلك)، يحددها في معركة (أدبية بحتة) كانت ستحسم جدلية القديم والجديد، بكل أبعادها الفلسفية الجمالية والإبداعية (ربما الإيديولوجية بشقوقها المتناثرة والمؤثرة). حيث رأى طاقات شعرية، مثل محمد الفهد العيسى الذي هدره العمل الدبلوماسي (مثله عبدالرحمن المنصور إنما التربوي )، والرميح الذي توفي مبكراً (مثله ناصر بوحيمد لكنه توقف مبكراً)، كان وجودها المستمر افتراضاً :« يساهم مساهمة فعالة في حسم المعركة بين القديم والجديد . «(محمد العلي، عزيزة فتح الله، ج/1، مرجع سابق، ص: 496)، وذلك ما جعل فترة الحداثة مرقعة بين ثلاثة أجيال الدفعة الرومانسية الثانية المكونة على نظرية التعبير المنتمي لها محمد العلي (الأسماء التي ذكرت في مطلع المقالة) بالمحايلة والدفعة الأولى (مسافر، سعد الحميدين، حسن السبع) والثانية (علي الدميني، عبدالله الزيد، غيداء المنفي وآخرهم محمد الثبيتي) من مرحلة التحول الحداثي نحو التفعلية ونظرية الخلق، لكن تلك الفوضى في تنافر الأجيال واندفاع النقاد المبشرين، كذلك الإخلال في استيفاء تنامي المقترح الجمالي بين شعر التفعيلة سواء في بعده الإيديولوجي أوالبعد الجمالي الصرف وبين قصيدة النثر كذلك في صفتها قابضة المهمش واليومي (التي سوف تنتشر بشكل مريع في نتاج التسعينات) واللغة العليا في إطارها الرؤيوي التي تنتظر تجربة لم تتابع عند من بدأ بها أو لازالت تنتظر فارسة أوفارساً. ..إن أهمية هذا الكتاب، في جزئه الأول، ليس المختارات الشعرية التي وضعت فيه، وسحب منها فيما بعد جزافاً جراء مراجعات متسرعة (كما أوضح لي محمد. القشعمي)، لأنه تنوقل منذ فترة ليست بعيدة المختارات الشعرية التي احتواها كتاب: «نبت الصمت - 1992»، لشاكر النابلسي، وهي المرة الأولى يجمع فيها شعر لمحمد العلي، ولكن - مكمن الأهمية- المقالات التي نشرها في جرائد ومجلات عدة (جريدة اليوم - الدمام، الجزيرة - الرياض، عكاظ - جدة، الحياة -لندن، اليمامة - الرياض، الشرق - اليمامة، الشرق الأوسط - لندن، الرياض -الرياض، القبس - الكويت، الواحة -بيروت، الرياضي-الخبر) المستمرة منذ ثلاثين عاماً، طارحاً فيها تعليقاته النقدية وأفكار مبتكرة تألق أكثرها في جريدة الحياة، ثم إلى المحاضرات المهمة في طروحاتها المتنوعة، التي كانت تحتاج منذ زمن كتاباً (نسميه مثلاً: مضيق الشعر؟) يجمعها لتشكل دراسات نقدية تسهم بشكل كبير في بلورة النظرة الفلسفية للشعر لحسها النقدي ذي الذوق العالي والفكري العميق، سأوردها تعديداً: 1- الحس الاجتماعي في الشعر العربي .2- حول الغموض الشعري .3- مفهوم التراث .4- المثقف والإيديولوجيا.5 - الفرق بين الرؤية والموقف .6 - القراءة والشباب .7- مفهوم الوطن. إضافة إلى، تلك المحاضرات المبتكرة، هناك دراسة نقدية جادة ورصينة نشرت (جريدة الوطن، 13 - 21 مارس 1989) على حلقات أربع عنوانها الكبير: «الأذهان المستطرفة: قراءة ساخنة في كتاب بارد «تناولت كتاباً ذا نفس تطهيري مؤدلج: «الحداثة في ميزان الإسلام «لمؤلفه عوض القرني (كذلك محاضرة كاسيت، نشرت مكتوبة في كتاب الناقد: العنف الأصولي محاضرة: الجهاد على الحداثة، شركة رياض الريس -1995، ص: 133)، حاكم الحداثة خالطاً بين التطور الأدبي في تحولاته الإبداعية والبدعة في مفهوم الفقه الديني، عوضاِ عن غياب منهج نقدي يخص الأدب كمنوع كتابة لا كإجراء أخلاقي. ..ما كانت تلك الدراسة المضيئة والطازجة - دراسة العلي بالطبع - حتى الآن، لأن تكون متجاوزة في طرحها الذي انتصر للجمالي والإبداعي فيما هو أدبي بحت، ما جعله يستفتح الحلقات بعناوين تنطوي على مرارة وتأس صوب وضع تطور الأدب - عند بعض ذي بؤس التناغم والواقع - في مشنقة البدعة: - كيف يمكن للإنسان أن ينتقد شيئاً لم يفهمه، ولم يقراه ؟. - الجهل بالتراث واللغة والأدب!. - نص عابث في موضوعات جادة، من الذي قال إن الحداثة مستوردة؟. - الحداثة ليست مفهوماً ماركسياً !. ..يختتم الجزء الأول، بسبعة عشر حوار اً (يفضلها تسجيل مكتوب لحفل تكريمه في إثنينية عبدالمقصود خوجة، ص: 511)، أهمها على إطلاق - أتحمل مسؤوليته -، حواره مع جريدة الراية القطرية (الذي تحدث فيه عن أزمة جيله وعلاقته بالبحر (ص: 495)وحوار جريدة الاقتصادية الذي أعده: طامي السميري (ص: 623). ..إن أبرز المحاور التي تحولت مواضيع تلك اللقاءات: مسألة البدايات، مفاهيم الحداثة، الطاقة الشعرية (شكلاً ومضموناً). كأن ترى محمد العلي، حين يتناقض مع قصيدة النثر (أو يقف حد فهمها عند محمد الماغوط)، ولا يكتبها، على العكس من أدونيس الذي تناقض معها وحاول كتابتها (الاثنان ولدا في مفتتح العقد الثالث من القرن العشرين الفائت)، فيما علي الدميني (من جيل لاحق للعلي) وقف بشكل صارم معها متهماً إياها بحس عقائدي بالعزلة والاستيراد (كما يعترف في شهادة قدمها: أفق التحولات في الشعر العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 2001،ص: 101). كما أن العلي، ظل يداور كثيراً في مسألة عدم طبعه أي ديوان أو المفترض أي جزء من المجموعة الشعرية الكاملة، فيما إذا استثنينا من أصدورا (أو أصدرت عقب وفاتهم مجاميع كاملة) من جيل سابق قليلاً: طاهر زمخشري، ومحمد حسن فقي، حتى عبدالله الفيصل الذي نشر مجموعته الشعرية الكاملة - دون أن يدري بها أحد!، فيما اختفي صوت مثل غادة الصحراء (الجوهرة العلي؟) وتحرك الجيل الذي رافقه العلي بهذه المبادرة على رأسهم: سعد الحميدين: «الأعمال الشعرية - 2003، دار المدى (دمشق)» ومسافر (أحمد الصالح): «المجموعة الأولى - 2004، مرامر (الرياض) »، فيما لم تكتمل عقود إصدارات شعرية تتراكم لأفراد هذا الجيل الشعري: علي الدميني أو حسن السبع أو عبدالله الزيد (أصدر مؤخراً ثلاثة مجاميع دفعة واحدة) أو محمد الثبيتي أو هيا العريني (المعروفة باسمها المستعار: غجرية الريف أو غيداء المنفى) هؤلاء يشكلون جيلاِ كاملاً. ..إن الأزمة لازالت مستمرة في مكان طباعة الكتاب ومقص الرقابة المفترض تجاوزها كما فعل الفيلسوف السعودي عبدالله القصيمي، ممنوعاً في مصر، مطبوعاً في بيروت، محروقاً في بيروت، مطبوعاً في باريس، ممنوعاً في الدول العربية، منقولاً عبر إيلاف ثم عودة لبيرت وألمانيا طباعة وانتشاراً. ..بل ربما المسألة تأخذنا إلى إشكالية شاعر القصيدة الواحدة إزا ء شاعر التجربة، التي تفتح سؤالاً عريضاً على كينونة الشاعر وأفقه الوجودي، كما هي فوبيا النقد (الرهاب) من التواصل القرائي تحليلاً وتفعيلاً، إلى «عقلية المحاجبة» عند القراء، أي الاستسلام إلى مجاهرات السلب الإيديولوجي التي صيرتهم ضحايا الفكر والعقل الجاهزين التي توسع الخنادق بدل ردمها بين عوائد البشر ومألوفاتهم لا طبعهم وجبلتهم التي ترتكن إلى كل ما هو معلب يغري استهلاكه ضعف محاولة الكشف والتأني دهشة وتأملاً. .. إذن، لماذا يقف كل هؤلاء الشعراء - كذلك الشاعرات - عن الفعالية الأدبية حضوراً وتألقاً؟. ..لقد رمى محمد العلي بأبوة حانية، حمل أن يحسم موضوع الأدب وتطوره في تراكم أو تحولاته القافزة والمفاجئة، لئلا يحال إلى طاولة الحد الفقهي فيما إذا التبست حال الإبداع بالبدعة، على توالي الإصدار في شتى الأنواع الأدبية: قصة قصيرة ورواية، شعر ونقد أدبي التي سوف تعيد رسم خارطة أخرى لهذ ه الحداثة الأدبية التي وجب منذ عقد من الزمن أن تتجاوز نفسها، فيما إذا اقتنع محمد العلي نفسه، الآن الآن وليس غداً - عذراً سعيد عقل -، نشر أعماله الشعرية والنثرية الكاملة، كذلك بات من الضروري أن يتحرك كل من أقرباء ناصر بو حيمد ومحمد العامر الرميح محاولة ذلك مع الثاني وتذكير الأول إ ن لم ينسنا، كما لو أكمل حسنته عبدالرحمن المنصور ليصدر ديوانه المخطوط: «تمرد». ..في النهاية نشكر، السيدة عزيزة فتح الله، على هذا الجهد الجبار في جمع هذه المادة وتحمسها إلى تبويبها وتصنيفها وإعدادها للنشر. كما أتمنى أن تكون نواة لأجل أن يصدر محمد العلي، عرائسه (قصائده) في كوشة من الورق الذي يعيننا التماس دفء الليالي القارصة ونسمة النهارات الحارقة. ahmad-alwasel @hotmil.com