أنتجت الثورة السوريّة، على مدى سنواتها الخمس المنصرمة، ما يمكن تسميته ب«ثورة فكرية وأدبية»، تمثّلت في كمّ ونوع هائلين من النصوص الإبداعية والفكرية، والمراجعات لكثير من «الثوابت» التي كرّستها الأحكام العرفيّة المفروضة من قبل حزب البعث في سورية، طوال ما يقارب خمسين عاماً، ما يجعل المتابع لهاتين «الثورتين»، السياسية والفكرية/ الأدبية، يتوقف مطوّلاً لتأمّل الحصاد الناجم عنهما، استناداً إلى المعايير الجديدة التي تولّدت عنهما، معايير لا تزال قيد التشكُّل وصولاً إلى التوازن والرسوخ. هنا أستعيد مقولة للشاعر والناقد السوري خضر الآغا في هذا الصدد: «بعد زمن، حين نوثق كتاباتنا وأفكارَنا في فترة الثورة، سيكون ذلك توثيقاً لعدم توازننا، ولأشكالنا التي على هيئة شظايا، وتوثيقاً لأرواحنا المهشمة...». وهي مقولة على مقدار من الصحّة، لكنها في الوقت نفسه تعبر عن هذا «الغليان» في مِرجل الإبداع في سورية، غليان سينتج ما هو جديد ومفاجئ ومدهش ربّما، فهو ابن الثورة والرغبة في التغيير. أسوق هذه المقدمة بين يدي قراءة لنصوص جديدة هي من نتاج الثورة والتحوّلات الجارية، فقد تابعتُ الكثير من النصوص التي تنضوي في هذا الإطار، وتوقّفتُ مع أبرزها (للتذكير رواية خالد خليفة «الموت عمل شاقّ»)، وسأتوقف هنا مع واحد من النصوص السرديّة التي أعتقد أنها تعبر عن المتغيّرات في المشهد السوريّ، وأعني رواية «موسم سقوط الفراشات» للكاتبة السورية عتاب شبيب، وسأعرض من الرواية ما يكشف عن تلك المتغيرات على مستوى الشخصية الرواية المعبّرة عن اختلالات عميقة. رواية «موسم سقوط الفراشات» (دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع)، هي أنموذج لنصّ سرديّ يقرأ زوايا من المجتمع السوريّ، في المرحلة الراهنة، فيقدّم صوراً من الحب الرومانسيّ والمرتبك، من خلال صور الحرب والموت القاسية، فضلاً عن صور من الحياة اليومية للمجتمع وأفراده، مدنيّين وعسكريّين رسميّين وثائرين، لتكتمل صورة الحدث السوريّ بوصفه مأساة إنسانية عميقة، وتراجيديا تتخذ من «حمص» مكاناً أساسيّاً للسرد. وهنا أضواء على ملامح من الرواية، إذ يصعب الوقوف على خيوطها ومحاورها كلها. وذلك كله من خلال علاقة حب ملتبسة بين «نور» التي فقدت زوجها و»نزار» الذي هجرته زوجته بسبب الحرب. تعلن البطلة «نور» في مقطع من الرواية «لم نكن سوى فراشات، والحرب حوّلت الوطن إلى موسم واحد تتشابه طقوسه في سقوطنا». والفراشات التي تتساقط، هي تعبير عن النساء والمآسي التي يتعرضن لها. نحن هنا حيال حياة كاملة، قوامُها الحبّ والحرب، حبّ اليائسين الهاربين من ويلات الحرب، وحرب المتصارعين من «الأهل» أبناء الأسرة الواحدة، كما هي حال الضابط الطيار الذي رفض الانشقاق عن الجيش، ثمّ وجد نفسه يقتل إخوته في قصف جويّ كان مطلوباً منه القيام به، ما يدفعه للانتحار حين يلقي بنفسه وطائرته على الصخور. في لغة سردية محكمة البناء، وعلى قدر من الشاعرية حيناً، والغنائية في مواضع كثيرة، تقدّم الكاتبة روايتها بصيغة تعتمد الأصوات الروائية، وفي البداية تقدّم لنا البطل/ الراوي (نزار) ليصف ما حدث، منذ اللحظة التي استيقظ فيها، وكل ما سمعه ودوّنه يدخل في باب الجنون الذي أصيب به الوطن «جنون جدير بأقدارنا، نحن الذين فتحنا أبواب بيوتنا للوثة الموت والفراق». ونزار كاتبٌ مسرحي وجد نفسه مجبراً على حياة العسكر الجافة، بعد أن اقتيد إلى الخدمة الإلزامية، وانخرط في حرب طويلة لا نهاية لها، ولا يريد أن يكون طرفاً فيها. وباختصار «كاتب في معسكر! يا للغربة!» على حد تعبير نزار نفسه، الذي يعلن منهياً حديثاً شائكاً ومفتتحاً الطريق لفكرة «سأبقى كاتباً، الكلمة حيلة الحياة لإبقائي على قيدها في حمى القتل التي تجتاح الوطن». بينما صديقته «نور» تبدو صورة عن شهرزاد «تعالج نزف جروحها بالبوح وسرد حكايات من تعرفهم».. فتروي- مثلاً- عن علاقات حبّ انتهت لأن كل طرفٍ فيها ينتمي إلى الطائفة المعادية للطرف الآخر. الرواية تتألف من مجموعة «حكايات»، ترصد الكثير من التفاصيل في الأحاسيس والمشاعر المتمخضة عن للحرب، وهي تبدأ بمشهد «البطل» (نزار) في المعسكر، وفي حالة هستيرية «أي جحيم أقحمت نفسك فيه؟ يسمع صوت المجند سليم يأتيه من الدنيا الصلبة مخترقاً وعيه الغارق في هلام الموت». وأنه «كلما ازداد الإنسان خوفاً، ازداد رغبة في الحبّ»، وحيث «خرج الوطن عن السيطرة، لم يعد بإمكان قوة إيقاف جموحه»، إذ «لا قوانين في الحرب، لا مسلمات سوى الموت». بل نتعرف إلى «جريمة قتل لن يحاسب مقترفها الحقيقي، فالقناص لم يكن أكثر من وسيلة، ولا أكثر أهمية من بندقيته المعدنية، والقاتل كان أكبر من الوطن الصغير». ولأن المؤلفة لا تريد إعلان انحيازها إلى طرف، فهي تبتعد عن الخطابات السياسية، وتذهب في اتجاه التفاصيل الإنسانية، ليبرز طبيعة العلاقات بين الجنود مثلاً، والنظرة إلى القتل، فنزار ليس بإمكانه أن يدعو صديقه «رفيق سلاح»، لأن هذا الوصف يستدعي إطلاقك للرصاص بمشاركة إنسان لإنهاء حياة إنسان بقصد الدفاع أو الهجوم، والرفقة هي الكلمة الملطفة لشراكة الجريمة، جريمة إيمانك بالقتل كوسيلة بقائك على قيد النبض. وهو «لم يطلق رصاصة واحدة طوال فترة خدمته الإجبارية، على الرغم من الحرب القذرة التي تعيشها البلاد». وأخيراً، فإن الرواية تتّكئ، في رؤيتها للثورة، على مقولة لميلان كونديرا يرى فيها أن «السأم بداية كلّ الثورات»، وتذكر في مكان آخر «أن بعض القلق حياة. وبدا أنّ الملل الذي انطلقت منه الثورة، دفع إلى حرب لا تعرف الملل». ومختصر القول هو الرد على سؤال «كيف أصبحت؟»، بسؤال يبدو أنه بات عقيماً هو «متى تصحو البلاد من كابوسها؟»، فهذا ما يجيب به «أي سوري تحت حجر الحرب»، وأي سوري ما إن تسأله عن حاله حتى يسألك متى تنتهي الحرب؟