بنيت البصرة في زمنها الأول عام 14ه/635 م، في مكان يسمى «الخريبة» حيث أدوات البناء متوافرة من قصب وخيام، ولحق بذلك الزمن تأسيس عتبة بن غزوان المسجد الجامع ودار الإمارة وتثبيت الشوارع والدروب. كانت تلك الجهود (التمصير) تعني تحول المعسكر إلى مدينة لاحقاً وتوسعت الفتوح شرق شط العرب وتوالى الولاة عليها بعد عتبة بن غزوان فجاءها المغيرة بن شعبه وأبو موسى الأشعري. وبدت آنذاك مدينة جند، ثم توالى قدوم المهاجرين إليها وبرزت البصرة عقب ذلك في الحوادث السياسية وبخاصة زمن الثورات والمحن وجدل المعتزلة وأخبارهم. وصارت مدرسة للنحو يطارد فيها اللغويون شوارد الألفاظ والمعاني. وهناك في حواريها ومساجدها أتيح لرجال الكلمة والشعر واللغة والاعتزال أن يبثوا أفكارهم أمثال الحسن البصري والأحنف بن قيس والأصمعي وسلم الخاسر وأبا عمرو العلاء والجاحظ والنظام والفرزدق وآخرين كثر ممن منحوا البصرة سمة الثقافة والفكر بدل صفة التجارة. البصرة مدينة الفرزدق والحسن البصري كانت ذات مكانة في الشخصية العربية وفي التراث المديني وقد ظلت جزءاً أساسياً من البحث الثقافي حتى أعطاها بدر شاكر السياب مذاقاً خاصاً. وكانت البصرة عين العراق كما يصفها أحد أبنائها الذي رأى في بلده العراق عين الدنيا. عثمانياً شكلت البصرة أحد ألوية العراق الأساسية (النصرة - بغداد - الموصل). ووفق كتاب «النصرة في أخبار البصرة» الذي يرسم معالم التاريخ والأنساب والقيم والأسر والعائلات والمصطلحات للقاضي أحمد الأنصاري والصادر عن دار الوراق (2015)، تعاقب على البصرة من الأعوام 945 -1331ه نحو 120 حاكماً عثمانياً ما بين متسلم وحاكم ووكيل ومتصرف ووال كان آخرهم في زمن الحرب الكونية الأولى صبحي بك. أما مؤلف كتاب «النصرة في أخبار البصرة» فهو أحمد بن نور من عرب الأنصار ولد عام 1803م ونشأ في أسرة علم وكان والده تاجراً وعمل مدرساً في المدرسة اليمانية عام 1243ه ثم عين قاضياً ثم أصبح عضواً في مجلس ولاية البصرة عام 1293ه. في مقدمة الكتاب يشير المؤلف إلى أنه ألف كتابه في زمن أحد الحكام المشهورين بالبناء وهو «مير ميران (أمير الأمراء) محمد منيب باشا أجرى الله على يديه من أنواع الخيرات ما يشاء...» والمصنف موال للدولة العثمانية ومؤيداً لها وداعياً لها بالبقاء، ويبدأ رسالته بأحوال البصرة المحروسة في زمانه مشيراً إلى مرافقها وأوصافها وخطها وأنهارها ومنها نهر العشار. ويكشف عن مقاطعاتها ومقدار ما تقدمه من ضرائب وأعشار. وأبرز مقاطعاتها العشار والسراجي ومهيقران ومتوسطة السراجي ومقاطعة اليهودي ومقاطعة نهر خور ومقاطعة الزين. ويلاحظ في مقاطعات الجانب الغربي نفوذ شيوخ القبائل فيها والتجار. وهناك أراض ومقاطعات الجانب الشرقي وأشهرها أكوات وشط العرب ومنها: كوت الجوع وكوت ابن نعمه وكوت الشيخ وكوت الدعيجي. وفي الفصل الثاني يذهب المصنف إلى ذكر أسباب تراجع البصرة بعد ما كانت «عروس المملكة والبلدان». ولعل أهم أسباب التراجع هو الغزو الذي لم يكن يترك شيئاً للفلاحين ما يجبرهم على ترك الفلاحة، وأدى ذلك إلى هلاك العديد من شجر النخيل بسبب عدم التفرغ لحفر الأنهار إليها. ومن أهم أسباب الضعف الداخلي للبصرة عدم استقامة الولاة وعدم النصح والحرص على الرعية وتسلط من ليس أهلاً للسلطة على العامة من الشعب ومطلقية التصرف للمتسلمية من أمثال داود باشا وعزيز آغا، وكان ذلك قبل وصول التنظيمات الخيرية، حيث صدرت عن المتسلمية وقتها تجريمات بحق التجار، حتى إن بعضهم من أمثال الشيخ خالد ابن أحمد بن مرزوق تركوا بيوتهم في البصرة وهربوا الى الكويت. وأشار الكاتب أيضاً في هذا الفصل إلى حصار البصرة الذي أضعف الأمن داخلها وتأذى منه السكان وهرب التجار الكبار. وأصاب البلدة الطاعون سنة سبع وأربعين للهجرة، وأتى بالدمار وأصبحت البلدة بعده خالية وتداعت بيوتها وهرب الكثير من أهلها وكبار تجارها. يعود الكاتب في الفصل الثالث إلى ذكر أسباب التعمير في البصرة بعد ما حل بها من خراب في محاولات الإصلاح من نواح عدة مثل الزراعة والري وتنقية مياه الأنهار، واستتباب الأمن، والعدل وإنصاف المظلوم واحترام العلماء والتعليم، والسبب الأهم على الإطلاق هو وجود وال صافي الذهن وشديد الدهاء والذكاء وأن يكون لديه من مخافة الله ما يمنعه من النظر إلى أموال الرعية وعفيف النفس فالناس على دين ملوكهم. ومن أهم الأسباب الأخرى التي ذكرها في هذه المجالات في الزراعة والري، وقيام رجال الدولة العليا بتوظيف العمال على الأنهار والسواقي لإعادة حفرها على رغم أنها درست مع الوقت ما أدى إلى هلاك الكثير من أشجار النخيل، وبقيت أراضي الشمال وجهة القبلة الصالحة للزراعة غير معمورة. وأتى الكاتب على ذكر حماية البصرة من الفيضان من طريق سد الجزائر وتحويل مائه إلى الأنهار التي يتم إنشاؤها في مقاطعات البصرة والمنتفك. وحصر الكاتب أسباب التعمير لداخل المدينة باستتباب الأمن إذ قام متصرف البصرة باستخدام تفكجي باشي «رئيس العسس» لحماية البلدة من اللصوص ليلاً. وفي العدل والمعاملة الحسنة أشار الكاتب إلى تغير المعاملة للحمالين والبنائين والسائقين والفلاحين والعامة من الشعب وعدم استخدام الألفاظ التي تنفرهم وتجعلهم يغادرون إلى مقاطعات أخرى، ما أدى إلى عودة كبار التجار والشخصيات التي تركت البصرة سابقاً. وأدى توقير أهل العلم وفتح المدارس إلى جعلها هدفاً للطلاب من العديد من الجهات. ومنع اعتداء ما سماهم أراذل العسكر على بساتين الفلاحين وتدميرهم لها وقطف محاصيلها ومنع اختلاط العسكر وكبرائهم من الدولة في العامة وأخذ المال من غير مقابلة، ومن أهم الإصلاحات تصفية مياه الأنهار. في بقية الكتاب الذي أرّخ لزمن البصرة وعمارتها تطرّق المؤلف إلى شروحات أهم الكلمات والمصطلحات التي مرّت في الفصول الثلاثة، وتعريف بالأعلام والأسر التي ذكرت فيها، وأتى على ذكر البصرة والهند من خلال أهميتها كطريق تجاري للهند، والملاحق التي تحدثت عن أنهار البصرة، وأسماء المحال الواقعة في جنوبالبصرة.