كن حيادياً. الموضوعية واجبة. كن بارداً كعدسة الكاميرا. لا يحق للصحافي ان يدس مشاعره في رسائله. هذا ما قلته لنفسي في الطائرة الصغيرة التي أقلتني من اربيل الى بغداد. من عاصمة اقليم كردستان الى عاصمة الرشيد. لم تسترجع بغداد عيشها العادي لتكون رحلتك اليها طبيعية وعادية. المشهد الأول يكفي. تصعد الى سيارة جيب وتكتشف انها مصفحة. وان السائق مسلح كما المرافق الجالس قربه. وان سيارة للشرطة تتقدم سيارتك واخرى تتبعها. واضح ان صديقك حرص على تبديد مخاوفك كأنه يحاول قطع الطريق على كل الاحتمالات. فور الخروج من المطار تجد نفسك وراء رتل طويل للقوات الاميركية. يتذمر السائق لكن الحكمة تقضي بعدم التجاوز. ببطء يتقدم الرتل. ليس من الحكمة ان تكون قريباً من رتل اميركي. لكن تجربة الشهور الماضية تفيد بأن عمليات استهداف الاميركيين سجلت تراجعاً كبيراً. وان ولائم القتل تتركز على العراقيين. تستوقفك جدران الاسمنت التي حولت طرقات كثيرة الى ما يشبه الانفاق. جدران شيدت لمنع المفاجآت على طريق المطار وفي قلب بغداد وبين احيائها. والمفاجآت هنا تعني إمطار سيارات عابرة بالرصاص او انغماس سيارة مفخخة بين العابرين لتحولهم اشلاء. يخلع الليل عباءته ويلقيها على بغداد. لم يغير قمرها عادته. يسهر فوق دجلة الذي يسير متعباً. يراودك شعور ان دجلة يبكي دماً من فرط تعاقب القساة على المدينة. قسوة الاحتلال. وقسوة الاغراب. وقسوة الابناء حين يقتتلون ولعلها الاشد مضاضة. يستحيل ان تشاهد دجلة ولا يحضر السياب الى ذهنك. وتكاد ترى الجواهري يقف غاضباً وسط النهر يرجم بصوته وقصائده كل من استباح العراق من الخارج والداخل. كأن دجلة يختنق بالجثث والغضب والعتب. الوضع في بغداد افضل من السابق. هذا ما يلمسه الزائر. هذا لا يعني ان الوضع طبيعي وخرج من دائرة الخطر. خلال وجودك في المدينة تسمع ان مسلحين هاجموا سوق الصاغة وكانت الحصيلة 15 قتيلاً. وقبلها تسمع عن اغتيال نائب فاز على لائحة "العراقية" في الموصل. وتسمع ايضاً عن وجبات القتل اليومية هنا وهناك. الوضع أفضل من السابق. والمسؤولون العراقيون يحاولون اشعارك ان صفحة الاحتلال تكاد تطوى. وان عودة الفتنة متعذرة. وان الشيعة والسنة سيتوصلون في النهاية الى صيغة شراكة تعترف بالمتغيرات وتبدد المخاوف وتوفر الضمانات. وان العراق لن يكون ملعباً للقوى الاقليمية ولن يكون تابعاً لأحد. هذا ما تسمعه من المسؤولين والسياسيين على اختلاف انتماءاتهم. تفاؤل السياسيين لا يلغي ان عراق ما بعد الزلزال يشهد ازمة كبرى بين مكوناته. في ختام ايام من اللقاءات مع مسؤولين وسياسيين ومثقفين في اقليم كردستان وبغداد يمكن الصحافي الزائر ان يعود بالملاحظات الآتية: - قرار ادارة اوباما بالانسحاب نهائي وقاطع. والتأثير الاميركي داخل العراق سجل انحساراً لافتاً في الشهور الماضية وكأن واشنطن تركت للعراقيين شؤون بلدهم وشجونه. وتسمع في بغداد ان الاميركيين يستعدون للانسحاب ليكونوا اقدر على التعامل مع ايران. - يسمع الزائر ان ايران هي اللاعب الخارجي الأكثر تأثيراً. لكنه يسمع ايضاً ان ادارة العراق من الخارج متعذرة. وان حلفاء طهران في بغداد لا يرغبون في استيراد نموذجها وبينهم من لا يقبل ابداً بأي سياسة ترمي الى تحويل العراق الى بلد ملحق بايران "لأن ذلك يهدد وحدته واستقراره". ويسمع الزائر ان عراقاً ملحقاً بايران لن يستقر والامر نفسه بالنسبة الى عراق معادٍ لها. - واضح ان تركيا تتحرك بفاعلية عبر الشركات والاتصالات لتكون حاضرة في التجاذبات التي ستحدد مستقبل العراق وتوازناته وموقعه الاقليمي. ويرى كثيرون ان التناغم بين الدورين العربي والتركي يمكن ان يؤدي في حال وجوده الى ضبط حدود الدور الايراني على الساحة العراقية. - يتفق كثيرون ان العراق شهد تغييرات جوهرية لا يمكن ردها او شطبها وبينها ولادة اقليم كردستان. وواضح ان الاكراد ليسوا في وارد قبول اي تهديد لهذا المكسب الذي حققوه عبر الدستور خصوصاً ان الاقليم يشهد حال استقرار وازدهار. - تعتبر الازمة الحكومية الحالية التي اعقبت الانتخابات جزءاً من الازمة بين المكونين العربيين في العراق اي الشيعة والسنة. حصيلة امتحان التعايش هناك لا تعني العراق وحده. للنجاح اصداء في المنطقة وللفشل اثمان باهظة. - ان الاتجاه الذي ستأخذه الاحداث في العراق مرهون بعاملين: نضج القوى السياسية ومسار الازمة المفتوحة بين ايران والغرب. يدخل الزائر بغداد خائفاً منها ويغادرها خائفاً عليها. ليست مدينة هامشية في تاريخ العرب. مصيرها سيرسم بعض مستقبلهم. نتيجة التدريبات المتعبة على التعايش بين القوميات والمذاهب وعلى قبول الآخر المختلف ستكشف الكثير عن مستقبل العرب واقليم الشرق الاوسط.