أثار إعلان حزب «الاتحاد الديموقراطي» (الموالي ل «العمال الكردستاني») المناطق الكرديّة في سورية إقليماً فيديراليّاً، لغطاً كبيراً، وفتح الباب على مصراعيه أمام نقاشات وسجالات كرديّة - كرديّة، وكرديّة - عربيّة، وعربيّة - عربيّة، بين مؤيّد لها، إلى الحدود القصوى، وردّة فعل تماثلها في الشدّة، وتعاكسها في الاتجاه صدرت من الجانب العربي السوري (معارضة وموالاة)، وبين مؤيّد للخطوة مع التحفّظ على بعض الجوانب والآليات، ومعارض للفكرة في شكل مطلق، ومعارض لها لمجرّد أن الحزب الذي أعلنها هو «الاتحاد الديموقراطي» مع تقديم الأسباب والعلل وموجبات هذا الرفض، وأبرزها أنه ينسّق مع نظام الأسد، ومارس القمع والاستبداد بحق معارضيه ومنتقديه... الخ. إيجابية خطوة «الاتحاد الديموقراطي» على ما شابها من ارتجال وعدم وضوح الرؤية في آليات إدارة السلطة، وشكل الفيديراليّة التي يقصدها الحزب المذكور، ومع وجود احتمال التراجع عنها، هي في تلك النقاشات والسجالات المذكورة آنفاً، والتي أماطت اللثام عن كم كبير من «التقيّة» التي كان السوريون، نخباً سياسيّة وعامّة، يمارسونها حيال بعضهم البعض. واتضح أن «الواحديّة» التي كانت أبرز شعارات ثورة الحريّة والكرامة؛ «واحد واحد واحد... الشعب السوري واحد»، لم تكن سوى محاولة قفز كبيرة أو التفاف كبير على الواقع السوري، الشديد التنوّع والتعقيد. وإن هذا التنوّع، مع الشحن والتأليب المتبادل، أفضى إلى حالة من التباين العميق إلى درجة التمزّق الاجتماعي - السياسي على مستويات عديدة. وغالب الظن أن هذا التلف الحاصل في النسيج الاجتماعي، لا يمكن تداركه وتضميده كي يلتئم، إلّا بالدفع نحو تبنّي فكرة الفيديرالية في سورية نحو الأمام. الحقّ أن حديث الفيديراليّة في سورية، الذي أطلق الروس شرارته، قبيل انسحابهم المفاجئ، كان مرفوضاً، في شكل قاطع، ويحظى بالاتفاق المبرم بين نظام الأسد ومعارضاته المختلفة، لجهة الرفض. ونتيجة التوتير والضخّ الإعلامي من جانب النظام ومعارضته، واشتعال صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الضخّ، باتت الفيديراليّة تُقدّم وكأنّها صنو الانفصال والتقسيم والتمزيق والتفتيت والنيل من وحدة التراب السوري، بعيداً من كل الدلالات اللغويّة والسياسيّة والقانونيّة لمفهوم الفيديراليّة - الاتحاديّة! بحيث غرق في ثرثرات ببغاوئيّة، تتهرّب من مناقشة جوهر الموضوع، والإجابة على السؤال المصيري والوجودي: أليست الفيديراليّة مصلحة سورية كبرى وملحّة، باعتبارها الحل الأمثل للمشاكل والأزمات السوريّة القوميّة منها والإداريّة والمناطقيّة أم لا؟ ولماذا؟! وإذا كانت حجج حزب «الاتحاد الديموقراطي» في إعلانه مشروعه «الفيديرالي» فيها ما فيها من ركاكة وتخبّط، وغارقة في الاستعراضيّة والخطابات والسرديات الغرائبيّة الجوفاء، أتت حجج المعارضين والمعترضين على الفيديراليّة، أكثر ركاكةً وكشفاً عن الأحقاد والكراهية التي يكنّها أصحابها للكرد وحقوقهم وتاريخهم، والرغبة في حرقهم بجريرة سياسات «الاتحاد الديموقراطي»! لئلا نسقط في آفة التعميم، تجب الإشارة إلى وجود قلّة قليلة، حاولت مناقشة الموضوع، بعيداً من حلبات الرؤوس الحامية، وشحذ السكاكين والفؤوس لمواجهة المطالبين بالفيديراليّة! في حين انزلق أكاديميون ومثقفون ومفكّرون وساسة في إطلاقهم أحكام القيمة السلبيّة على الأكراد، عبر تبنّي خطاب يحضّ على التخوين والكراهية، وهدر الكرامات والدماء. والغريب في الأمر، أن بعض هؤلاء، يعيش في بلدان فيديراليّة، منذ سنوات، ولا يستطيع إيراد مثل واحد فقط على فشل النظام الفيديرالي، كحجّة وقرينة ضد مطلب الكرد السوريين. من غير المفهوم والمبرر رفض البعض من الشركاء العرب، مبدأ الفيديراليّة، كمصلحة سوريّة كبرى وملحّة، تضمن وتعزز وحدة الدولة السوريّة، دون تقديم الحجج المنطقيّة المستندة إلى تجارب شعوب وبلدان أخرى! ولا يعني ذلك القبول بفيديراليّة حزب «الاتحاد الديموقراطي»، على ما هي عليه الآن. ولكن من المعيب والغريب، رفض الفيديرالية، فقط لمجرّد أن هذا الحزب هو الذي تبناها وطرحها وفرضها، مستغلاً ظروفاً استثنائيّة معيّنة. كما أنه من المؤسف اتخاذ هذا الحزب كمبرر ومنصّة لرفض فكرة الفدرلة في سورية! وبالعودة إلى حجج الرافضين، يمكن قول التالي: 1 - غالبية الأنظمة الفيديراليّة في العالم، كانت وليدة حروب وأزمات، باعتبارها حلاً لها، ولم تكن سبباً لنشوب هذه الحروب والأزمات الجديدة. 2 - الكثير من التجارب الفيزيائيّة، الطبيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة والسياسيّة...، الناجحة، يكون في البداية، مرتبكاً يشوبه الاعتلال والعيوب والمثالب. وهذان الارتباك والاعتلال، لا يمكن اتخاذهما كحجّة لرفض التجربة من أساسها. ذلك أن تراكم الخبرات والممارسة، يصقّل التجربة ويطوّرها وينمّيها. 3 - فوبيا الفيديراليّة، جعلت أصحابها، ينزلقون إلى اتهام كل مؤيد لها بالخيانة والردّة والكفر..! وهذا السلوك، لا يصدر إلا من أصحاب الوعي العقيدي، الشمولي، المشبع بوهم المركزيّة القوميّة أو الدينيّة أو الطائفيّة والمذهبيّة، وسيادة المركز المطلقة على الأطراف. موروث الدولة - الأمّة، بنسختيها القوميّة والدينيّة، في الفكر والحراك السياسي والثقافي السوري، الموالي والمعارض، عبّر عن نفسه بشراسة في رفض الفيديراليّة كمشروع حل للأزمة السوريّة، وتخلّى أصحاب هذا الموروث عن تلك «التقيّة» الوطنيّة، ولبوس اللبرلة والنزوع الوطني الديموقراطي، لمصلحة تبنّي خطاب قوموي، شعبوي، استئثاري، ينضحُ تخويناً وكراهية. كذلك، الموالون لحزب «الاتحاد الديموقراطي»، انزلقت بهم حال النشوة إلى درجة تبنّي خطاب استعدائي موتور، في وقت كان أجدى وأولى بهم، التخلّص من هذه النبرة، بغية تنقية الأجواء وتطمين الأطراف الأخرى وكسبها، وسحب البساط من تحت أقدام، أزلام النظام التركي، داخل المعارضة السوريّة. 4 - حال رافضي الفيديراليّة في سورية، كحال رافضيها في العراق من العرب السنّة، الذين صاروا مؤيدين للفيديراليّة فيما بعد، ويطالبون بإقليمهم الفيديرالي - السنّي، ولا يستطيعون تحقيق ذلك، بسبب الممانعة الشيعيّة - السياسيّة الحاكمة، المدعومة من إيران. وظهر للعرب السنّة، أن الفيديراليّة الكرديّة، التي حاربوها، هي التي حمتهم من التوحّش الطائفي الشيعي والسنّي على حدّ سواء، الذي يعصف بالعراق! وبالتالي، سيأتي اليوم الذي يقبل فيه بالفيديرالية الكرديّة في سورية، من كان يرفضها ويحاربها الآن. 5 - طبيعة الأقاليم الفيديراليّة السوريّة، تلزمها بعدم الانفصال عن بعضها البعض. فالإقليم الساحلي، في حاجة إلى الداخل. وإقليم الأكراد في حاجة إلى إقليم حلب الصناعي وإقليم الساحل. وإقليم دمشق، في حاجة إلى الأقاليم الأخرى. إن سورية، بحدودها الحالية، التي يزعم رافضو الفيديرالية بأنهم يقدّسونها، فرضها الاستعمار. وسورية في الأصل، كانت دولة اتحاديّة فيديراليّة مطلع العشرينات (الاتحاد السوري)، إبان الاحتلال الفرنسي! ثم إنه من قال: إن الفيديراليّة لا تقوم على أساس قومي وعرقي؟ أوليست التجربة البلجيكيّة والسويسريّة أكبر دليل على بطلان هذه الحجّة؟! 6 - التعويل على العناد والممانعة التركيين، كالتعويل على ردّ الريح بالغبار. ذلك أن الأتراك، مانعوا الفيديراليّة الكرديّة العراقيّة، منذ أن أعلنها الأكراد من جانب واحد سنة 1992، وتكرّست هذه الفيديراليّة، بعد سقوط نظام صدّام، وصياغة الدستور العراقي. ولم يجد الأتراك أمامهم، إلا الاعتراف وإقامة علاقات سياسيّة واقتصاديّة كبيرة ومهمّة مع الاقليم الكردي العراقي. زد على ذلك، التهويل التركي بأن الفيديراليّة الكرديّة العراقيّة ستؤثر سلباً في تركيا وأمنها ووحدة أراضيها، وسيحرّض كرد تركيا على الانفصال، هذه الحجة - التهويل، منذ 1992 ولغاية 2016، ثبت بطلانها وزيفها. وعليه، محاربة المعارضة السوريّة (او بعضها)، طموحات كرد سورية وتهديدهم ب «العصا التركيّة»، فيها ما فيها من اللاوطنيّة، والجهل بحقيقة البراغماتيّة التركيّة، المستعدّة للمتاجرة بأمن واستقرار مواطنيها، فكيف بأمن واستقرار مواطنين آخرين. بدليل العلاقات القويّة بين أنقرة وطهران، مع علم الأتراك بمدى دعم إيران ل «العمال الكردستاني» منذ منتصف الثمانيات وحتّى الآن! يمكن التماس الأعذار لرافضي الفيديرالية عن جهل أو عدم دراية أو إلمام. ولكن من يعارضها عمداً، عن عِلم، وكرهاً في الأكراد، أقل ما يقال فيهم بأنهم «فلول» أو يتامى الأنظمة والذهنيّات الشموليّة، الذين يصارعون نظام الأسد ليس لتغييره، بل لانتزاع السلطة منه، وممارسة دوره على مكوّنات الشعب السوري، سواء أكانوا في المعارضة أو في السلطة. * كاتب كردي سوري