كانت شوارع طرابلس مرتعاً للقذائف العشوائية، وكانت المدافع تقتحم النوافذ لتقتل النيام وترعب الأنام. ظهر رشيد كرامي بهدوئه الصارم ونبرته التي لا تعتريها رعشة، وناشد القائدين حافظ الأسد وياسر عرفات مساعدة طرابلس على الخروج من المحنة، كما طلب من أهله أن يتحلّوا بالصبر والحذر، ودعا الى مؤتمر طرابلسي في دارته، فلم يغفل شخصية أو فعالية، وحضر هذا المؤتمر ياسر عرفات رحمه الله والعميد محمد غانم عن القيادة السورية، وهناك سلَّم الأطراف جميعهم أمورهم لرجل الوطنية والعروبة والحوار، والأعصاب الفولاذية، والنظرة النفاذة رشيد كرامي، فكانت هيئة التنسيق الشمالية التي ضمت المختلفين، كي يحلّوا مشاكلهم بالحوار. لا شك في أن تلك الهيئة قامت بدور جليل تجلّى بالتمسك بفكرة الدولة ومؤسساتها على رغم المؤامرة الشرسة التي حيكت ضد هذه الدولة والتي وصلت الى ذروتها باغتيال الشهيد رشيد كرامي بطريقة أفقدت الجيش صدقيته وقدرته على حماية رئيسه، فاستمرت الهيئة بعده برئاسة الرئيس عمر كرامي تمثل طرابلس وتقول كلمتها وتشارك في الحوار اللبناني والعربي، الى أن وضعت الحرب أوزارها. في الأول من حزيران (يونيو) نتذكره دائماً، لأنا نفتقد وجوده الجامع، ونجد في كل سنة أشياء جديدة نقولها عنه، لا لأننا نكتشف فيه صفات لم نكن نعرفها فيه، بل لأننا نفتقد صفاته المعروفة بعد أن تهاوت الحياة السياسية الى ما هي عليه. لقد كان نداء واحدٌ منه كافياً لوضع حد للحرب الطرابلسية العبثية، وكانت صالة دارته واسعة لتضم ألد خصومه، لأن هؤلاء على وجه التحديد، كانوا يقرّون في أعماقهم أنه مرجع المدينة وصمام أمانها. في ذكرى رشيد كرامي، اجتمع معظم الفرقاء الطرابلسيين في مجلس بلدي واحد، فهل يستعيد هذا المجلس ذاكرة هيئة التنسيق كي يهتم بشؤون المدينة ويجعل الحياة اليومية محتملة، ويقدم طرابلس كنموذج ديموقراطي، يختلف فيه الناس بالسياسة ويتفقون بالإنماء؟ قد تكون أمنيتي بعيدة المنال، ولكنها إذا تحققت، سيخضلُّ قبره بعشب الفرح.