في كتاب «المواجهة المصرية الأوروبية في عهد محمد علي» أخيراً (عن دار الشروق في القاهرة) يناقش الدكتور محمد عبدالستار البدري، وهو ديبلوماسي مصري، العلاقات المصرية - الأوروبية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، في محاولة الى التعرف الى أسباب اتفاق الدول الأوروبية الكبرى (باستثناء فرنسا) في عام 1840 على تحجيم طموحات السياسة الخارجية المصرية، ما أسفر عن تدمير حلم محمد علي في تكوين دولة كبرى في المنطقة تكون مصر قاعدتها الأساسية. وكما أشار اليه الدكتور مصطفى الفقي في تقديمه للكتاب، فإن محمد علي يعد بمثابة نموذج «رجل الدولة» الذي لم تعرف هذه المنطقة من العالم مثيلاً له، على حد تعبيره، من حيث أنه كان واعياً بتطور التحالفات الدولية وطبيعة الارتباطات الإقليمية، كما استطاع ببراعة القائد وحنكة السياسي أن يستثمر مكانة مصر ودورها في مواجهة الأطراف الأخرى أوروبية كانت أم شرق أوسطية. وجدير بالذكر أن هذا الكتاب في الأساس هو عبارة عن أطروحة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه من جامعة بلكنت في أنقرة. وواقع الأمر، أنه مما يضفي أهمية على هذا العمل التاريخيّ أنه جاء مرتبطاً بموضوع له أهميته وعصر لا تنتهي قيمته إذ يذكرنا الصراع الدائر حالياً في المنطقة ودور الدول الكبرى فيه بما حدث إبان عهد محمد علي الذي تواطأت ضده القوى الكبرى في عصره حتى انتهت بتحجيم دوره وتقليص إمبراطوريته في سابقةٍ تاريخية تكررت في ما بعد مع كل من يريد أن يخرج من حدود مصر متطلعاً إلى المنطقة من حوله. يبدأ الكتاب بتصدير لابن رشد يقول فيه: «إذا كان كل ما يُحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر لما قالوه من ذلك، فإن كان صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عنه». وكأن المؤلف يشير بذلك الاقتباس إلى المنهج الذي سيتبعه في كل فصول الكتاب أولاً، كما يهيئ القارئ ثانياً إلى أنه بصدد قراءة جديدة لموضوع الكتاب يتم فيها مراجعة كل ما كتب حول هذا الموضوع وإعادة تقييمه لشرح وفهم الدور الاستراتيجي الدولي والإقليمي لمصر في السياسة الدولية إبان عهد محمد علي. وينطلق المؤلف بعد ذلك من فهمه الخاص لهذه المؤامرة التاريخية بأنها أعمق بكثير من أن نفسرها بالنظريات الاستعمارية البحتة، مؤكداً أن جذور تلك المؤامرة وتفسيرها يرتبطان في الأساس بنظرية وآليات «توازن القوة Balance of Power System» التي كانت تنتهجها الدول الأوروبية وقتذاك، ولا تزال، وتطبقها حفاظاً على التوازن الأمنيّ والاستراتيجيّ في النظام الأوروبي. وبالتالي فإن جهود محمد علي وتطلعاته الإقليمية في مطلع القرن التاسع عشر وضعت مصر في حال صدام مع هذا التوازن فكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن تكاتفت القوى الأوروبية مجتمعة ضدها من أجل إعادة الاستقرار لهذا النظام من جهة وإجهاض الحالم المصري على رغم مشروعيته من جهة ثانية. وفقاً لذلك يدعو المؤلف إلى وضع ما سماه ب «النية التآمرية»، في حجمه الصحيح باعتباره عاملاً ثانوياً وليس المحرك الرئيس للقوى الأوروبية ضد مصر، مؤكداً أنه يتضح من خلال قراءة أحوال النظام الأوروبي والمراسلات الديبلوماسية الأوروبية أن ما حدث لمصر إنما يأتي ضمن إطار أوسع وأشمل من النظريات التآمرية التي يُفسر بها التاريخ أحياناً. إذاً تتحدد الإشكالية الرئيسة لهذا الكتاب في أنه يتناول القيمة الحقيقية لدور مصر إقليمياً ودولياً في النصف الأول من القرن التاسع عشر ورؤية الدول الأوروبية لهذا الدور، وكيف تحولت مصر من تابع ضعيفٍ للدولة العثمانية إلى عضو مؤثر في الأمن الأوروبي خلال زمن قصير للغاية جداً. ويترتب على ما سبق حديث بعض المؤرخين عما أسموه ب «المسألة المصرية» أو «الظاهرة المصرية» لوصف الدور الذي لعبته مصر في المنطقة وأثره المباشر على المصالح الأمنية والإستراتيجية للقارة الأوروبية. ونتيجة لذلك، أدت الموجات التوسعية لمصر على حساب الدولة العثمانية إلى شرخ منظومة توزيعات القوة وترتيبات الأمن في النظام الأوروبي ثلاث مرات على الأقل: الأولى من خلال حروب «المورة» (1825- 1827)، ومرتين من خلال الحرب المصرية العثمانية الأولى في (1831- 1833) والثانية في (1839- 1841). واستناداً إلى ذلك يتناول الكتاب في فصله الأول المعنون «النظام الأوروبي عشيّة ظهور المسألة المصرية»، التعريف الخاص بمفهوم «توازن القوة» في العلاقات الدولية وتطبيقاته العملية على النظام الأوروبي خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، مصدراً إياه بمقولة هنري كيسنجر، وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأسبق، والتي جاء فيها: «عندما تضطر مجموعة من الدول للتعامل مع بعضها البعض فهناك إحدى نتيجتين: إما أن تقوم دولة بالسيطرة على بقية الدول، أو أن أياً من الدول لن تملك القدرة على تحقيق ذلك، وفي هذه الحال فإن أهداف الدولة المهيمنة يتم تحجيمها». * كاتب مصري