مع كل ما يجتاح منطقتنا والعالم تبدو الحرية الدينية إشكالية متجددة دائمة الحضور، وفي لبنان على نحو خاص تبدو هذه الحرية محل نقاش ودراسة وموضوع ورشات عمل، فهذا البلد الذي عرف بدوره الرائد في محيطه ومجتمعه المتنوع ما زال يحتضن المحافل المتخصصة التي تهتم بهذا النوع من النقاشات. في هذا الإطار نظم «معهد أديان» يوم السبت 6 شباط (فبراير) الماضي، ورشة عمل متخصصة عن «الحوار الديني - المدني حول الحرية الدينية» في فندق البريستول، بدعم من السفارة الكندية في بيروت وحضور السفيرة الكندية ميشيل كامرون. كان اختيار المشاركين في ورشة العمل دقيقاً ومراعياً للتنوع الديني والفكري، فقد جمعت 20 مشاركاً بين مرجعيات دينية وخبراء وأكاديميين في مجالات الفلسفة والسياسة والقانون. ويبدو أن المعهد نظم هذه الورشة انطلاقاً من أهمية الحفاظ على التنوع المكون للمجتمعات وحقوق المجموعات والأفراد، وتعزيز مفهوم المواطنة والمبادئ الأساسية المرتبطة به في السياقين الإقليمي والدولي وكأن العمل يأتي من وحي قول البابا فرنسيس الذي أورده أحد المتحدثين «إن الله لا يحب الأسوار التي لا تفتأ تزداد في كل مكان». وكان من الواضح تركيز ورشة العمل منذ بدايتها على نصوص مرجعية ثلاثة: واحد فاتيكاني وآخر أزهري وثالث صادر عن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت. يتوقع المرء عادة من ورشات عمل أو مؤتمرات مشابهة كلاماً بروتوكولياً مجاملاً، وأجواء تسودها نظريات جميلة ومثالية لا تلامس واقع الحال وحقيقة المشكلات التي يعيشها المجتمع على صعيد الحرية الدينية، لكن تبدو ورشة العمل هذه على تماس مباشر مع حقيقة الأمور على نحو واقعي وصريح من دون أن يعني هذا الابتعاد عن روح المحبة والاحترام التي كانت سائدة طيلة أعمال الورشة. مؤسسة «أديان» والمعهد التابع لها شكلا محركاً دورياً لهذا النوع من العمل الفكري الرصين الواقعي والعلمي، وقد أشارت الدكتورة نايلة طبارة مديرة المعهد إلى الحرص على «ابتكار مساحات تجمع أهل الاختصاصات المختلفة وعلماء الدين وصانعي سياسات للقاء والتفكير معاً». أعمال الورشة شملت خمس جلسات كانت أولاها عن «الحرية الدينية والكرامة البشرية» التي شهدت مداخلات عدة منها ما أكد أصالة الحرية الدينية في طبيعة الإنسان وأنها «حق طبيعي»، وكان لافتاً الحديث عن وجوب تأقلم القانون الوضعي مع مبادئ الحق الطبيعي لا العكس، لكن مع مراعاة حاجات ومعطيات ظروف كل مجتمع بشري. وفي الجلسة الثانية عن «الحرية الدينية وحرية الضمير» مداخلة مفيدة وممتعة في آن للدكتور أنطوان قربان ذكر فيها أن الإنسان كائن حر يمكن له أن يعتقد بأن كيانه البشري «ناتج من عملية خلق إلهي أو مجرد تطور طبيعي. هذا لا يغير شيئاً في واقعه البشري الذي لا يختاره ولا مسؤولية له بتكوينه»، مستعرضاً بإيجاز محطات ثقافية مختلفة عبر التاريخ، كالتقليد الأميركي والفرنسي وإعلان مراكش والدستور اللبناني. التنوع في المتحدثين أدى إلى تناول مختلف جوانب الموضوع المطروح في ورشة العمل فكانت مداخلة السيد جعفر فضل الله في الجلسة الثالثة حول «الحرية الدينية والدولة» التي طرح من خلالها سؤالين، الأول هل الحرية مسألة من صلب معنى الإنسان في وجوده على الأرض؟ والثاني هي الأسبقية للدولة أو للإنسان؟ وبالتالي ماذا يفترض من مسؤوليات لأحدهما تجاه الآخر؟ محذراً من خطأ ممارسة أي إسقاطات على الجماعات الدينية في ما يختص بهذا الموضوع الديني فذلك سيوجد جداراً يعيق أي حوار. وفي الجلسة الرابعة عن «الحرية الدينية والمجال العام» تحدث الدكتور أنطوان صفير عن ماهية الحرية الدينية وتعريفها بأنها الحرية المكرسة للإنسان وبالتالي للجماعة باعتناق أي فكر ديني أن غير ديني وتبديله من دون قيود، وممارسة الشعائر بكل مظاهرها. معتبراً أن «الحرية الدينية ليست هي التسامح الديني» فالتسامح الديني خيار بينما الحرية الدينية هي حق مكرس في القوانين والشرائع. أما الجلسة الأخيرة حملت عنوان «الحرية الدينية: مسؤولية دينية مشتركة؟»، وكانت مداخلة للدكتور أمين فرشوخ تكلم فيها عن مسلمين يؤلون الآيات على نهج ما فيتطرفون في تطبيقها، وآخرون يرون ويطبقون عكس ذلك ويشجبون كل تطرف وغلو وتشدد مستندين أيضاً إلى نصوص دينية ومواقف شاهدة، ثم اقترح خطة من أربع خطوات لبناء منظومة متماسكة تؤكد الحرية الدينية. عقب الورشة أكدت مديرة معهد أديان الدكتورة نايلة طبارة ل «الحياة» أن الصدق الذي شهدته الجلسة تخطى توقعاتها بسبب الأوضاع السائدة، فكان «نقد ذاتي وعدم قبول ورضوخ لبعض كلام المؤسسة الدينية نفسها». لا شك في أن المداخلات كانت جيدة ومحضرة على نحو علمي، لكن النقاشات والتعليقات التي تلتها كانت أكثر حيوية وحرية. مع ذلك فإن المتابع لا بد من أن يتخوف من بقاء هذه النقاشات نقاشات نخبوية، بمعنى أن تبقى محصورة بين فئة محدودة من المهتمين والمتابعين وبعيدة من التحول إلى ما هو عملي ويطاول شرائح المجتمع، وهذه المخاوف أجاب عنها منسق مشروع الحوار المدني الديني حول الحرية الدينية في معهد أديان الأستاذ زياد الصائغ الذي أشار إلى أن هذه المخاوف هي التحدي الأساس متحدثاً عن «نقل مخرجات هذه الورشة إلى مستوى مخاطبة الرأي العام مباشرة وهذا ما جرى اعلامياً عبر نقل مجريات الورشة فوراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي التفاعلي كخطوة أولى» والبناء على نحو تراكمي لتأصيل مفهوم الحرية الدينية، وتحدثت طبارة في هذا السياق عن أنه ستبنى على هذا العمل خطوات تالية كإصدار كتاب يتضمن أعمال الورشة وتحويله لمادة تربوية مدنية ودينية عن التنوع ورفض الإقصاء والتكفير، كما العمل على الناحية الإعلامية ودوماً بموازاة مشاريع أخرى تقوم بها مؤسسة أديان. للوهلة الأولى، يبدو العنوان مستنسخاً من سلسلة عناوين دارجة في هذا الإطار، إلا أن مداخلات المتحدثين والنقاشات اللاحقة، أحدثت ثقوباً في هذا الانطباع، وطرحت أسئلة جدية يمكن تبادلها حتى بعد إغلاق الأبواب في البريستول حيث طبق المشاركون قولاً آخر للبابا الحالي اقتبسه الدكتور فرشوخ في مداخلته وهو «على المسلمين والمسيحيين ألا يعملوا وجهاً لوجه، بل جنباً إلى جنب».