ربما يكون لدور «الكومبارس» الذي لعبه في أحد الأفلام في مدينة براغ التشيخية مطلع شبابه حين كان موفداً لدراسة الفيزياء النووية، أو ربما يكون للصفعة التي تلقاها صغيراً من أحد حراس الخارجية في حديقة شعبية، أثر مهم في تغيير مسار حياة نبيل المالح، السينمائي والرسام والكاتب والسيناريست السوري، الذي رحل قبل أيام عن عمر ناهز ال78 سنة، في غربته في مدينة دبي بعد صراع مع مرض رئوي. وهو دُفن هناك بعيداً من سوريا التي أحبّ، ومن دمشقه التي سكنته منذ أيام طفولته الأولى، لكن لا الدور ولا الصفعة أحبطا من عزيمة الشاب الذي رفض لعب دور «الكومبارس» في الحياة والسينما والشأن العام، كما صدّ كل صفعات الحياة وتقلّباتها عليه داخل العمل أو في المعتقلات التي «زارها». ربما يكون نبيل المالح من أوائل السينمائيين السوريين الذين درسوا الإخراج السينمائي، ودرسوه في العديد من الدول كأميركا واليونان، لكنه حين عاد إلى سورية في الستينات من القرن المنصرم، وجد الحال السينمائية مرتبطة بالقطاع العام، وكانت المؤسسة العامة للسينما هي الجهة العامة الموكل إليها إنتاج الأفلام السينمائية في ذلك الحين. لكنه لم يتمهّل كثيراً في انتظار ما يمكن أن يأتي، بل أقدم على إخراج الأفلام، فقدّم خلال فترة قصيرة أربعة أفلام طويلة للتلفزيون، هي: «المفاجأة» و «أحلام» و «رجلان وامرأة» و «إكليل شوك». وبدأ تعاونه مع المؤسسة العامة للسينما في سورية من أعمال تسجيلية وروائية وتجريبية، فكان فيلم «نابالم» في العام 1970، والذي حصد حضوراً مميزاً على المستوى العالمي. بعد هذا الفيلم وفي العام ذاته، خاض المالح تجربة سينمائية خاصة من خلال فيلم «رجال تحت الشمس»، وكان فيلماً يتألف من ثلاثة أعمال سينمائية: «المخاض»، «الميلاد»، و«اللقاء»، من إخراج محمد شاهين ومروان المؤذن ونبيل المالح، وكتب السيناريو حينها نجيب سرور ونبيل المالح وقيس الزبيدي ومحمد شاهين ومروان المؤذن. بعد أعمال سينمائية عدة، قدّم المالح فيلمه الجميل «الفهد» 1972، عن رواية حيدر حيدر، والذي يدور حول حكاية فلاح بسيط يكتشف أن السلطة الإقطاعية هي امتداد للسلطة الاستعمارية حين انتزعت منه أرضه. يدخل السجن ويعذَّب بقسوة من السجانين الذين يقاومهم ببندقية حصل عليها، متحولاً إلى أيقونة شعبية. الفيلم فاز يومها بالعديد من الجوائز المحلية والعالمية، من بينها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان دمشق السينمائي وجائزة تقديرية من مهرجان لوكارنو السينمائي، وجائزة تقديرية من مهرجان كارلو فيفاري، وغيرها الكثير. بعدها، أنجز المالح أفلام: «غوار جيمس بوند» 1973، «السيد التقدمي» 1974، و«بقايا صور» 1980 عن رواية للروائي السوري حنا مينة بالاسم نفسه. أما عمله السينمائي المميز «كومبارس» الذي أنجزه عام 1994، فقد كتب له السيناريو وهو خارج البلاد، ليعود ويقدّمه لمؤسسة السينما التي وافقت على إنتاجه. والفيلم تدور أحداثه بين رجل وامرأة. رجل بسيط يعمل مع الممثلين ككومبارس. وامرأة عادية. يتواعدان ليلتقيا في بيت صديق له. وفيما هما هناك، تدور بينهما الأحاديث ومن حولهما أحداث تقرأ تاريخ الخوف والضغوطات التي يعاني منها المواطن. وهذا كله من خلال ساعتين زمنيتين وسينمائيتين يديرهما المالح ببراعة سينمائية لافتة، حيث قام بالدورين الرئيسيين بسام كوسا وسمر سامي. عُرض «الكومبارس» في مهرجان دبي السينمائي، ونال جائزة أحسن إخراج من مهرجان القاهرة، وجائزتي التمثيل لبطليه من مهرجان السينما العربية في باريس، وجائزة أحسن سيناريو من مهرجان فالنسيا، والجائزة الفضية لمهرجان ريميني. الى هذا، أنجز المالح العديد من الأفلام التسجيلية المميزة، لعل أهمها «البحث عن شيخ الشباب»، وهو فيلم عن المناضل فخري البارودي، أحد أهم أعلام دمشق ومناضليها الوطنيين في القرن العشرين، ثم أخرج فيلم «عالشام... عالشام»، إضافة الى كثير من الأعمال القصيرة الأخرى. وحاول إخراج فيلم عن أسامة بن لادن بالتعاون مع ابراهيم الجبين، وذهب إلى الساحل ليصوّر هناك بحثاً عن عائلة ترتبط ببن لادن، لكن الأجهزة الأمنية صادرت الفيلم ولم يُعرض. وصل عدد أفلام نبيل المالح القصيرة والتسجيلية والروائية والتلفزيونية، وفق الكثير من المواقع السينمائية وكلام للراحل، إلى أكثر من 150 فيلماً، وربما بلغ عدد المشاريع المخبأة في أدراجه أكثر من هذا العدد، فالمالح كان دائم المشاريع والكتابة والبحث والتنقل. وهو الذي اختار دبي مقراً له خلال السنوات الأخيرة... ذهب يبحث هناك عن ضوء آخر ومستقبل آخر وطمأنينة تريح روحه، هو الذي لم يتوقف إلا عند رحيله المفجع عن خوض حروبه السينمائية والحياتية وعلى كل الجبهات.