لوحظت منذ التدخل الروسي في الصراع الدموي المتواصل في سورية، ظاهرة تتمثل في حدوث «طفرة» في عدد الأوروبيين الملتحقين بتنظيم «داعش». ويعكس ذلك التطور المقلق مجرد فشل خطط الحكومات الأوروبية بالتضييق على تلك الظاهرة بسلسلة من قوانين متشددة، تصل أحياناً الى سحب جوازات سفر الذين يعتقد أنهم على وشك التوجه الى الشرق الأوسط، أو تهديدهم بالسجن، والتلويح بسحب الجنسيات الأوروبية من العائدين من تلك المنطقة. وكذلك تدل تلك الظاهرة على أن العوالم الافتراضية هي ساحة أساسية لتجنيد الشباب الأوروبي المُسلم لمصلحة التنظيمات المتطرفة. وتتحدى تلك الوقائع الأحاديث عن تحالفات أمنية دولية مع شركات الإنترنت والتكنولوجيا ضد التنظيمات الإرهابية، وتضييق يفترض أن جهات أوروبية تمارسه على مواقع التنظيمات المتطرفة، ورقابة دائمة يقال إنها مفروضة على صفحات منحازة إلى الإرهاب في مواقع شبكات التواصل الاجتماعي العملاقة، وحرب أعلنتها أخيراً منظمة «أنونيموس» العالمية، وهي تجمع لمحترفي قرصنة الحواسيب، على حضور «داعش» الإلكتروني، خصوصاً بعد التفجيرات الدامية في باريس العام المنصرم. من الاعتدال إلى التطرف في أحيان كثيرة، تكون «غرف الدردشة» هي نقطة البداية في عمليات التجنيد المعقدة والمنظمة، وتنسيق إجراءات نقل المقاتلين من أمكنة سكنهم في دولهم الأوروبية، إلى متعاونين مع «داعش» أو غيرها من التنظيمات على الحدود التركية - السورية. وعن طريق القصص التي كشف عن بعضها مقاتلون أوروبيون سابقون في سورية عادوا نادمين إلى دولهم، يمكن رسم صورة تقريبية عن عمليات تجنيد الشباب الأوروبي المسلم على الإنترنت. ومن الواضح أنها عمليات تحدث على مستويات عدة، ففي بعض الأحيان، يصار إلى استخدام مواقع شبكية معتدلة صنعها بعض الشباب الأوروبي المسلم. وفي تلك المواقع، يجري استدراج أصحاب التعليقات العدائية والغاضبة إلى مواقع أكثر سرية، بهدف جرهم إلى مزيد من الأحاديث وتبادل المعلومات معهم وعنهم أيضاً، وبعدها يصار إلى إغراق أولئك الشباب بصور إعلامية أحادية وشديدة العاطفية، مع التركيز على أزماتهم في مجتمعاتهم الأوروبية، والضرب على عصب التمييز العنصري والديني بهدف أن يقود ذلك إلى حثهم على الالتحاق ب «داعش» وسواه. وحتى في عمليات التجنيد التي تحدث في الحياة الفعلية، داخل مساجد يسيطر عليها متطرفون أو عبر الأصدقاء، يُكمِل خطاب العنف الحاد الذي تبثه «داعش» وغيرها من المنظمات المتطرفة عبر الإنترنت الجهود التي كانت بدأت لإقناع الشباب وتضخ فيه قوة كبيرة، الى الحد الذي يجعل من الممكن لهؤلاء الشباب ترك الحياة في أوروبا والتوجه الى إحدى المناطق الأشد خطورة عالمياً. ولعل أشد ما يثير قلق اختصاصيين أوروبيين في الإنترنت، أن المنظمات الإرهابية خلقت سوقاً لبرامج التواصل السري الإلكترونية، وأحياناً ساهمت هي نفسها في رفد السوق بذلك النوع من البرامج. والأرجح أن تلك المنظمات أولت ذلك الجانب أهمية كبيرة توازي أهمية الإنترنت في الحياة العصرية. كما أنها عرفت سريعاً أنها غير قادرة على طرح أفكارها كاملة في الضوء، فاتجهت إلى العمل تحت الأرض مستعينة أحياناً ببرامج طورت أصلاً بهدف الحد من ظاهرة تسرب المعلومات على ال «نت» وزيادة حصانة البيانات الشخصية. وعلى رغم أن بعض البرامج السرية ك «أسرار الدردشة» باتت معروفة اليوم للجهات الأمنية، إلا أن أعداد تلك البرامج، وبعضها يحصل على مباركة «الجبهة الإسلامية العالمية للإعلام» المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، يتزايد باستمرار. وبالنتيجة، يصبح من الصعب كثيراً اللحاق بمواقع التطرف الإرهابي، أو تفكيكها ومعرفة أسرارها، خصوصاً أنها برامج شديدة الحساسية تجاه الفضوليين، وتصدر تحذيرات سريعة لمستخدميها عن وجود من يسعى للتجسس عليها. ومن التطورات البارزة في الجهود المتواصلة لخلق فضاءات محمية تعمل لمصلحة منظمات إرهابية، ما طرحته «الجبهة الإسلامية العالمية للإعلام» من برامج لتشفير الرسائل على الهواتف الذكية التي تعمل بنظامي «آندرويد» و «سيمبيان»، لقطع الطريق أمام الذين يحاولون التلصص على بياناتها في الإنترنت. وفي سياق مشابه، أطلقت منظمة «مركز الفجر للإعلام» التابعة لتنظيم «القاعدة»، برنامجاً يقوم هو الآخر بتشفير البيانات السرية التي يتبادلها أعضاء المنظمات المتطرفة، سواء في اتصالهم بمسلمين في أوروبا، أو كجزء من اتصالاتهم في حروبهم الطويلة في سورية والعراق. فخ في دهاليز الشبكات في حديث الى التلفزيون الهولندي الحكومي، نقل والد أحد الجهاديين الهولنديّين الذي قتل في العراق، أنه لم يلحظ أي نشاط مريب لابنه على الانترنت. لكن الأب شهد تغييرات سريعة في سلوك ذلك الابن الشاب النحيل من الأصول المغربية الذي كان يدرس الفندقة في مدينة «ماسترخت» في جنوبهولندا، قبل أن يترك كليته ويتوجه سرّاً الى سورية. مرّت شهور طويلة قبل أن تسمع العائلة في هولندا خبر مقتل ابنها في عملية انتحارية في العاصمة العراقية، خلّفت أكثر من عشرين ضحية من العراقيّين. وترجح السلطات الأمنيّة الهولنديّة أن تجنيد الشاب ذاك جرى في إحدى الغرف السريّة على الانترنت، التي مازال الكثير منها مجهولاً للسلطات الرسميّة. ولا ترد تلك الغرف في القوائم التي بدأت الحكومة الهولندية بتوزيعها على المدارس وتوفيرها للعوائل القلقة على ما يُمكن أن يحدث لأبنائها في ساحات المعارك الشرق أوسطيّة. تركز قوائم الحكومات الأوروبية للمواقع المُتطرفة على الانترنت، على مواقع ومنتديات إلكترونيّة بعينها، على رغم أن تلك الأخيرة لا تشكّل سوى قمة جبل الجليد من مجريات تجنيد الشباب المسلم في أوروبا على الشبكة العنكبوتيّة. كما أن هذه المواقع الإلكترونيّة المتطرفة تختفي بسرعة كبيرة، غالباً قبل أن تجري ملاحظتها في القوائم الحكوميّة عن المواقع المتطرفة. ويرجع ذلك إلى سهولة استهداف تلك الأخيرة بعمليات القرصنة والحجب من قِبل شركات الانترنت. إضافة الى ذلك، يستخدم كثير من تلك المواقع اللغتين العربية والإنكليزية، وهي لغات تبقى صعبة على الأوروبيين من أصحاب الأصول الشرق أوسطيّة، الذين لا يجيد معظمهم إلا لغات الدول الأوروبيّة التي يعيشون فيها. وكذلك تترجم محتويات تلك المواقع، وفق مجاهدين هولنديّين سابقين، إلى لغات عدّة قبل أن ينقل بسرعة كبيرة إلى «غرف الدردشة» ومواقع التبادل المباشر للملفات الإلكترونيّة. وفي تلك «الغرف»، لا يقتصر تبادل البيانات على الافكار والتجارب فحسب، بل يشمل الصور وأفلام الفيديو المصوّرة في مواقع القتال في سورية والعراق. وبذا، تعوّض «غرف الدردشة» عن التأثير الذي يحدِثه حجب تلك المواد على موقع «يوتوب».