انتصر باراك أوباما في معركته لاستصدار قانون إصلاح نظام الرعاية الصحية في الولاياتالمتحدة، ولكن يقول خصومه وخصوم القانون إن هذا الانتصار لم يكن مطلقاً أو كاملاً ولم تكن معركة أوباما سوى جولة أولى ستعقبها جولات يهدف خصومه من ورائها إلى إسقاط القانون، وإحباط عدد من مشاريع أوباما الإصلاحية. أستطيع أن أتصور سعادة الجماعات الأميركية المناهضة للإصلاحات الاجتماعية التي وعد أوباما بتنفيذها خلال الحملة الانتخابية، وهي تتابع آخر تطورات الأزمة المالية في اليونان وتداعياتها في جميع أنحاء القارة الأوروبية. ففي أوروبا تبذل الآن جهود جادة يشترك فيها صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي وقوى ضغط ألمانية، هدفها تقليص الأنشطة التي تمارسها أنظمة الرفاه التي اشتهرت بها المجتمعات الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت هذه الأنظمة محل انتقادات واسعة من جانب أنصار المدرسة الاقتصادية الأميركية الداعية إلى التطرف في فرض حرية السوق والتوسع في الاستهلاك والاعتماد، كما رأينا في أميركا، على المضاربة على السندات والقروض والملكيات العقارية. وحين وقعت الأزمة المالية منذ عامين لم تخف حكومات كثيرة في آسيا، وفي مقدمها الصين والهند، ومعظم حكومات أوروبا، غضبها على الولاياتالمتحدة التي كان تساهلها في التعامل مع المضاربين ورفضها وضع قواعد تنظم حركة المال وأسواق المصارف وترددها في فرض عقوبات صارمة على المصرفيين الذين تجاوزوا كل الحدود سبباً في إهمال حقوق المدخرين وتبديد ثروات طائلة. وفي غمرة القلق والتوتر لم تتوقف هذه الحكومات بعض الوقت لتبحث في إمكانية اتخاذ إجراءات تمنع تكرار ما حدث في أميركا، أو لتفكر في إعادة النظر في القواعد التي تحكم عمل النظام الاقتصادي العالمي وفي مبادئه وآلياته. يتضح الآن، بعد نشوب الأزمة اليونانية، أن العالم الرأسمالي فشل على رغم الخسائر التي ترتبت عن الأزمات المالية المتعددة وبخاصة الأزمة المالية العالمية الأخيرة في العثور على بديل يوقف نزيف الثقة بين الشعوب وحكوماتها. لقد نشبت في عقد التسعينات أزمة مالية خطيرة في آسيا اهتزت لها أسواق المال في العالم وفقد العالم ثروة هائلة بددتها الأزمة وثروة هائلة أخرى أنفقت لإنقاذ اقتصادات آسيا، وفي نهاية العقد سقطت اقتصادات في دول أميركا اللاتينية وتدخلت المؤسسات الدولية والولاياتالمتحدة لإنقاذ المكسيك والأرجنتين، ثم وقعت الأزمة العظمى في الولاياتالمتحدة وتدخلت إدارة بوش ثم أوباما وخصصتا أرقاماً غير مسبوقة من الاعتمادات النقدية لترميم الصدع الذي أصاب عدداً هائلاً من المؤسسات المالية والصناعية والتجارية في الولاياتالمتحدة، كذلك تدخلت حكومات أوروبا وآسيا لتمنع تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية ولتهدئة مشاعر الشعوب التي فقدت الثقة في السياسيين والمؤسسات الدولية. وبينما كانت هذه الحكومات وغيرها من حكومات العالم تحاول جاهدة الخروج من الأزمة العظمى، نشبت أزمة اليونان في أشكال اجتماعية وسياسية ومالية متنوعة. بمعنى آخر دخلت في الأزمة المالية عناصر لم تكن موجودة عندما نشبت أزمات آسيا وأميركا اللاتينية والولاياتالمتحدة، مما أثار الخوف من أن تنتقل العدوى إلى جميع أنحاء العالم الرأسمالي فيتهدد الاستقرار السياسي والسلام الدولي. لا أتصور أن الانتقال إلى مجتمع أو دولة التقشف والتخلي عن مجتمع أو دولة الرفاه سيكون عملية سهلة وسلسة. أتصور أنها ستكون عملية شاقة ومفروشة بالأشواك ومنهكة لحكومات أغلبها أصابه الضعف من طول المعاناة. نعرف الآن أن حكومات كثيرة في العالم الرأسمالي تئن تحت صعوبات مواجهة العجز المالي في موازناتها وتضخم الدين العام الذي أصبح يثقل كاهلها وكاهل شعوبها. نعرف أن العجز في بريطانيا بلغ 12 في المئة من مجمل الناتج القومي البريطاني، وأن فرنسا فشلت في أن تقدم موازنة متوازنة على امتداد ثلاثين عاماً، وأن الدين العام الإيطالي بلغ 115 في المئة من مجمل الناتج القومي، وأن كلاً من العجز في الموازنة والدين العام في الولاياتالمتحدة فاق كل الحدود المقبولة اقتصادياً وسياسياً. عندما ندقق في هذه الأرقام أو النسب يصيبنا، كما أصاب بعضاً من أشهر علماء الاقتصاد، القلق الشديد على حال الاستقرار العالمي وربما السلام الإقليمي. لقد لفتت نظري عبارة وردت في تصريح لمسؤول أوروبي كبير لم تذكر صحيفة «الفاينانشال تايمز» اسمه، جاء فيها أن التوتر الشديد المشوب بالكراهية بين شعبي اليونان وألمانيا هو أقرب شيء ممكن في أوروبا الحديثة إلى حال الحرب بين البلدين. خلدت شعوب أوروبا طويلاً إلى السكينة مطمئنة إلى أن الاتحاد الأوروبي سيبقى دائماً وأبداً المظلة التي ستحميها من غلو الرأسمالية المتوحشة ومن زحف الأفكار الأميركية الداعية إلى التطرف في ممارسات حرية السوق. كان الشعور السائد، حتى نشوب «ثورة» اليونان، أن ما كسبته الشعوب الأوروبية على صعيد الإنجازات الاجتماعية، على امتداد أربعة أو خمسة عقود، ازداد رسوخاً عندما تعاقدت شعوب أوروبا مع حكوماتها على إقامة الاتحاد الأوروبي أو الانضمام إليه. كانت الآمال معقودة على أن الرخاء المصحوب بالرفاه مؤمن ومضمون وأن الدولة الأغنى في أوروبا لن تتخلى عن دولة أقل ثراء تتعرض لمشكلات مالية. لم تتوقع دولة في أوروبا أن تقف دول الاتحاد متفرجة بينما اليونان تحترق. بل إن كثيرين في الخارج، وبخاصة في الدول المطلة على البحر المتوسط، لم يصدقوا أن يوماً سيأتي تعود فيه الأحقاد والانتقادات المتبادلة تهيمن على صفحات الصحف وأجهزة الإعلام. عادت شعوب الشمال وحكوماتها تنتقد كسل شعوب الجنوب وفساد حكوماتها، وترفض مد يد العون إليها، وعادت شعوب الجنوب تنتقد «تعالي» شعوب الشمال وغطرسة النخب الحاكمة فيها. الآن وبعد أن تدخل الصندوق الدولي مدفوعاً بنفوذ أميركي قوي وملح، وبعد أن صارت القضية أشمل وأكبر من اليونان، أي بعد أن وقع الاعتراف بأن أزمات إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وأيرلندا مشتقات من الأزمة العالمية الكبرى، بدأ الحديث في عواصمجنوب أوروبا عن مرحلة مقبلة حافلة بتطورات سياسية، بعضها قد يكون باهظ التكلفة ومثيراً لكثير من الاضطراب الاجتماعي والسياسي. نسمع من يندد بالنقص في السيادة القومية الذي سينتج عن الاستجابة للقيود التي اشترطها صندوق النقد وحكومة ألمانيا. ونسمع من يستنكر «العودة إلى الوراء» في مجتمعات الرفاه والرعاية الاجتماعية وفرض سياسات تقشف على مجتمعات اعتادت الإحالة المبكرة الى التقاعد ورعاية صحية مجانية وتعويضات سخية عن البطالة، هذه منجزات صارت لدى الأوروبيين ترقى إلى مستوى الحقوق الأساسية للإنسان، المساس بها يعني إخضاع الأوروبيين لسلبيات العولمة التي حاول الأوروبيون الإفلات منها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. تكشف تطورات الأزمة المالية العالمية وتقارير المؤسسات الدولية عن أحوال دول عدة في العالم الغربي عن حقيقة أن أغلب هذه الدول تنفق أكثر مما يدخل إلى خزانتها، وتكشف أيضاً عن حقيقة أخرى وهي أن حال الأفراد في هذه المجتمعات كحال الدول، هم أيضاً يعيشون على القروض. وقد يكون صحيحاً من ناحية التبرير الاقتصادي القول أن لا خطر داهماً ينتج من هذا الوضع، حيث إن المشكلة برمتها ورقية ولا تؤثر جذرياً في نمو اقتصادات الدول. لا أعرف الكفاية عن تفاصيل اقتصادات الدول في ظل حال الاضطراب الراهنة لأحكم على صدق هذا التبرير، ولكنني أعرف الكفاية عن اقتصادات الفرد، فالفرد قد يحل موقتاً مشكلة العجز النقدي القائمة بين دخله وإنفاقه بالتنقل بين المقرضين وتوسيع دائرتهم، ولكنه لن يحل الضائقة النفسية والاجتماعية والصحية التي يتسبب بها هذا العجز في موازنته الشخصية أو العائلية وهذا التنقل بين المانحين والمقرضين، ولن يمنع تدهور مكانته وتردي علاقاته بالآخرين. * كاتب مصري