ثلاثتهم التقوا في كوخ الأرانب، أشعلوا السجائر وراحوا ينفثون دخانها على عجل خوفاً من أن يباغتهم أحد، أصغرهم أشعل سيجارته ولكنه تردد كثيراً قبل أن يُدخِنها فرماها أرضاً. سُحب الدخان عبقت في المكان، فالتفت الأصغر سِناً الى رفيقيه وأخبرهم بأن مصيرهم الهلاك فيما أصابهما سعال حاد لم ينتهِ إلا بخروجهما مسرعين خوفاً من الاختناق. المشهد من تصوير وإخراج محمود الجراح (17 سنة)، عرضه خلال محاضرة عن أضرار التدخين في مكتب التنمية بمخيم «غزة» الواقع بمحافظة جرش، البعيدة حوالى 60 كيلومتراً عن العاصمة الأردنية عمان. محمود وظف ما تعلمه من مهارات تصويرية وفنون إخراج اكتسبها في ورشة لتعلّم صناعة الأفلام وهي من سلسلة ورش تنفذها مبادرة تعاونية عمان لصناعة الأفلام بإشراف مؤسسها حازم البيطار. ووجد الشاب تجاوباً من الحاضرين وهم أصغر منه سناً، فانخرطوا في النقاش بعد مشاهدتهم المقطع الدرامي الذي مثله ثلاثة أطفال من أبناء المخيم. ويرى محمود أن ورشة صناعة الأفلام التي انتظم فيها مدة أسبوع فتحت أمامَهُ آفاقاً حتى انه صار يفكر ملياً بالتخصص في مجال التصوير الوثائقي. رفيقه إبراهيم ابو عبيد (17 سنةً) يعتقد أن تصوير الفيديو والأفلام القصيرة وسيلة لنقل تفاصيل حياة أبناء المخيم إلى العالم. ويقول: «نحن نعيش ضمن وضع قانوني ينعكس بطبيعة الحال على أوضاعنا الاجتماعية وظروف حياتنا. فبيئة المخيم بائسة ويستشري فيها الفقر والبطالة ويعيش حوالى 20 ألف لاجئ غزي من دون هوية». وتجد تمام أبو زهرة (23 سنة) التي التحقت بورشة أخرى عن كتابة النصوص السينمائية والإخراج أن المهارات التي اكتسبتها ورفاقها ستسهل عليهم فكرة تصوير فيلم وثائقي عن أوضاع المخيم، وتعتقد أن قضية اللاجئ الغزي ستصل إلى كل بيت من خلال شاشة التلفاز. مبادرة تعاونية عمان اتجهت الى المخيمات والقرى الأردنية تبحث عن المواهب وتنميها ومنحتهم وسيلة تمكنهم من نقل رسائل وقضايا مجتمعاتهم بحسب البيطار. وتأسست المبادرة في 2002 من قبل مجموعة من السينمائيين الشباب، الباحثين عن فسحة للتعبير عبر الكاميرا، والنص السينمائي. ويقول البيطار عن بداية تأسيسها: «كنا نتراسل عبر الانترنت للالتقاء ونجتمع لمشاهدة أفلام السينما ونقدها وعندما كبرت المجموعة خرجنا من هذا الإطار نحو صناعة الأفلام باستخدام عدسات الكاميرا، وما يتيحه الحاسوب من برامج إنتاجية وتدفق متواصل عن الخبرات في هذا المجال باستخدام الشبكة العنكبوتية». ويقول عن المبادرة إنها «مشروع سينمائي تنموي متكامل موجهة للمجتمعات الأقل حظاً من مخيمات وقرى وفلسفتها إنسانية، ودافعها المساهمة في إنشاء ثقافة سينمائية أردنية، ووضع القضايا الإنسانية على أجندة الاهتمام المحلي والعالمي». الورش والاجتماعات التي تعقدها المبادرة تهدف إلى تدريب الشبان على صناعة فيلم يحمل مضموناً فكرياً وحسياً وإنسانياً، ومن شأنه أن يترك أثره في المشاهد ويحمل له رسائل عدة، تترك أثرها في سلوكه وأحاسيسه. ويوضح البيطار أن «غالبية المهتمين بالسينما كانوا وضعوا أحلامهم جانباً، وأقفلوا عليها إلا أن مبادرة التعاونية استطاعت أن تكسر العوائق التي حالت دون أن يخوض هؤلاء التجربة السينمائية وأتاحت أمامهم فرصة المنافسة في مهرجانات دولية وإقليمية». ويوضح أن «العوائق كانت ترتبط بأساليب الإنتاج التقليدية التي تعتمد في عملها على شريط الفيديو، وضرورة توافر مؤسسة حكومية او خاصة داعمة، إلا أن التعاونية استطاعت باستخدام آليات إنتاج بإمكانات شبه معدومة أو محدودة أن تصنع أفلاماً نافست في جودتها ومضمونها في مهرجانات دولية». ويضيف ان «المسألة لا تحتاج أكثر من فكرة وإبداع وكاميرا ديجيتال صغيرة الحجم، سهلة الاستعمال، وعالية الكفاءة، وبرامج الكومبيوتر، واستخدام الصوت والمؤثرات السمعية البصرية». ومن خلال التعاونية فإن المشاركة بالمهرجانات بالنسبة للمخرجين المدربين أصبحت أسهل بفضل الثورة التكنولوجية التي تلاشت أمامها عقبات النشر والتوزيع بعد أن كان إرسالها يمر بطرق «ملغومة» تضعها أمام الجهات الرقابية التي غالباً ما كانت تفرج عنها بعد انتهاء فترة المشاركة بالمهرجان وفقاً لما يوضحه البيطار. أدوات الإنتاج استعانت بها داليا الكوري (25 سنة) التي تخرجت من المبادرة وصنعت فيلماً عُرض في المحطات الفضائية، كان عنوانه «ابتسم أنت في جنوب لبنان» وجاء في مقدمته: «حين تكون القنابل جزءاً من حياتك تصبح للحرب كوميديا». الكوري سعت بكاميرتها إلى خلق حالة من الدعابة في أجواء مخضبة بالدمار وآثار العدوان، ولم يعرض الفيلم حالة الحرب بل صور الاشخاص وهم مقبلون على الحياة بوجود الحرب أو من دونها ويصرون على ممارسة الضحك على رغم الظروف القاهرة. وتعد الكوري إحدى المواهب الشابة التي انتظمت في ورشات عقدتها المبادرة وأُتيح لها المشاركة في مهرجانات دولية. ويقول البيطار إن حوالى 400 شاب وشابة تخرجوا من ورشات المبادرة التي تستهدف من هم دون سن ال 18 وبعضهم ينخرط فيها من باب الفضول. أما الورش المخصصة للبالغين وهم فوق سن العشرين فغالبية المنتسبين لها أثبتوا إبداعاتهم، ولديهم صبر أكثر للوصول إلى النتائج من خلال الانتظام بورش عدة قد تستمر قرابة السنة كي تصبح لديهم المقدرة على إنتاج وتصوير فيلم قصير يقبل في إحدى المهرجانات الدولية، أو أن يشارك بنشاط سينمائي يقيم انجازاته. ويؤكد البيطار أن تعاونية عمان استطاعت أن تخلق سينما مستقلة بمواهب جديدة توثق الثقافة الأردنية وتدفع بعجلة الإنتاج السينمائي الى الأمام، وتكسر ثقافة العيب التي تعززها المؤسسة القائمة والتي لا تعترف بقيمة الأفلام القصيرة أو الفيديو فيما لو كان تصويرها يعتمد على كاميرا الديجتال.