أخفاهم الليل، فكشف النهار عن مواقفهم ومعاناتهم وحزنهم مرسوماً بالكلمات والألوان على جدران بيروت. المدونون الذين يلوذون بالجدران الاسمنتية لمناجاة حبيب، أو للتعبير عن موقف شخصي لا يهم الكثيرين، لم يضبطهم أحد، فقد استتروا خوفاً من ملاحقة الشرطة البلدية لهم، وتركوا ما لم يمحَ في الأنفاق المؤدية الى المدينة من كلمات ورسوم مثيرة للضحك والتعجب... والشفقة أحياناً. عبارة «بحبك يا سودة» تلاحق كل من يعبر نفق المطار باتجاه بيروت، كذلك «منى حياتي» و «حياتي عذاب» يقرأها المارّون بتعجب، ويستدركون في ما بعد أنها «كلمات بلا معنى». حكاية بيروت مع الشعارات والمواقف السياسية والشخصية على الجدران، تعود الى مرحلة السبعينات من القرن الماضي أي الى المرحلة التي كانت الظاهرة رائجة فيها في أوروبا. غير أن الأوروبيين، تحولوا الى تدوين مواقفهم على حائط الفايسبوك، أو المدونات الإلكترونية المأخوذ من فكرة التعبير عن الآراء على الجدران الاسمنتية. غير أن اللبنانيين، ما زالوا يلوذون بجدران المدينة، ويكتبون ويمحون ويردون على بعضهم بعضاً، من دون أدنى اعتبار لجمالية المشهد أو الفوضى التي تخلفها تلك الخربشات. المشترك بين العبارات المدونة أن كتابها مستترون. الشرطة البلدية تصفهم بال «أشباح»، ويعتقد البعض أنهم يتخفون في الظلام ليحولوا الحائط المطلي الى مساحة تعبير عن رأي، وفسحة لكتابة ما يخالج النفس من أفكار. غير أن هيثم، (21 سنة) الطالب الجامعي في علوم الأحياء في إحدى الجامعات الخاصة، يبعث عبر الجدران برسائل الى حبيبته التي تمر يومياً من صيدا الى بيروت عبر نفق المطار. كتب لها بداية «بحبك موت R+H» ، وما لبث أن طوّر التعبير بما يتناسب مع الحالة، فكتب «حياتي عذاب» ورسم قلباً مدمّى، ثم أعاد كتابة شعارات الحب عندما تحسنت العلاقة. أما حين انفصلا، فكتب مأساته على شكل رسوم وتعابير مستوحاة من أغان حزينة. «دايماً دموع... دموع». يؤكد هيثم أنه كان يتقصد اختيار النفق لكتابة مشاعره، تعبيراً عما يشعر به تجاه حبيبته. وقال: «كانت تعرف أن الكلمات والرسوم موجهة لها، وتتابعها وتتفقد الجدران خلال رحلتها الى صيدا، بغية قراءة ما أكتبه لها»، لكن «مرّ الزمن على علاقتنا منذ عامين، ولم يبقَ من ذكرانا إلا ما كتب على الجدران لأنها لم تُمحَ». هيثم اختار مرشّة البويا السوداء للتعبير عن مشاعره، فيما يختار آخرون «ألواناً أخرى لتمييز ما يكتب عن الموجود أصلاً». وإذا كانت بعض العبارات المنقوشة بالطلاء الأسود لا تعني المارين لأنها «خالية من أي معنى» كما يعتقدون، فان بعضها الآخر يسترعي انتباههم، بعد أن تلفتهم شعارات تحيي أمجاد حقبات سياسية غابرة على جدران المدينة الرياضية والسور المحاذي لمدخل الجامعة العربية. «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، عبارة قد تثير انتباه من عايش حقبة الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، و «تفرحه» كما يقول الدكتور خالد حلبي الذي ما زال متمسكاً بتوجه عبد الناصر السياسي، لكنه يعارض في الوقت نفسه «تشويه الجدران». مدونات غير قابلة للتعديل، تنتشر في أنفاق بيروت وعلى جدرانها. عبارات «ممنوع لصق الإعلانات على الجدران» و «ممنوع كتابة الشعارات والخربشات على الحائط»، لا تردع الهواة الذين وجدوا في تلك الجدران مساحة لكتابة لغة لا يستطيعون قولها في مجالسهم، أو لا يسمعهم أحد إذا أرادوا المجاهرة بها. لكن في المقلب الآخر، حاول طلاب تجميل الجدران المؤدية الى الجامعة الأميركية في بيروت، فكتبوا بالألوان «شارع الحمرا يا شارع الألوان»، وأبرقوا الى بيروت من قلبهم «سلام»، وزينوا الدرج بعبارة «صباح النور»، كما رسموا محبتهم ألواناً زهرية وصفراً وزرقاً تدعو الى التفاؤل وتزيد من جمالية الخط المروري، بيد أنها تعرضت ل «خدش جمالي» من خلال ما أضيف إليها من عبارات وهواجس وشعارات سياسية، على غرار الجدران الأخرى. باتت الجدران الجميلة، بحكم التدوين المستمر، مجلة حائط تعلق عليها رزنامة نشاطات، ومواقف سياسية، ومقتطفات من قصائد نزار قباني وأغاني هاني شاكر. بعض الشوارع حاولت تلافي ما حدث في شوارع أخرى. استبقت الموقف بتزيين جدران غير قابلة للتشويه بسهولة، وتردع الهواة عن تزيينها بما يملكون من قدرة تشويهية، فاستعانت مؤسسة المقاصد الإسلامية بالفنان التشكيلي جمال البطل لرسم بيروت القديمة على جدران سور المدرسة في منطقتي قصقص وعائشة بكار. نقل البطل البيوت القديمة التي يحتفظ بها في ذاكرته «متراً متراً وشارعاً شارعاً»، ورسم أبنيتها القديمة وكل الشبابيك والأبواب والشرفات و «دعسات الأقدام»، كما يقول، بألوانها الطبيعية. ربما ينقذ البطل تلك الشوارع من فوضى الكتابة العشوائية على جدران تستحق أن تكون واجهة لمدينة جميلة.