صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب دراسة تحت عنوان «نظرية الشعر بين فلسفة ابن رشد وبلاغة القرطاجني»، للباحث المغربي الدكتور السعيد أخي. ويشير الباحث إلى أنه اختار ابن رشد والقرطاجني محوراً لدراسته، لأنهما تفردا بالرؤية الفلسفية معاً، ورسما الخطى المنهجية لقراءة النصوص النقدية قراءة تستجيب طموحات الباحثين عن النسق المعرفي الفلسفي في علاقته بالدرس اللغوي والبلاغي. لقد بنى ابن رشد والقرطاجني مشروعيهما انطلاقاً من نظرة إصلاحية للإبداع الشعري العربي، والاشتغال عليه في ضوء الكتابات النقدية والبلاغية العربية وآراء أرسطو من أجل تأسيس مشروع نظري أكثر خصباً وغنى. ويستحضر الباحث قضية الأثر الفلسفي في البيان العربي التي أسالت كثيراً من المداد، وأثارت جدلاً واسعاً بين المهتمين بالدرس النقدي والبلاغي عند العرب، حيث كان ذلك أقوى امتحان للهوية الثقافية العربية في شقّها البياني، على اعتبار أن البيان يمثل لُبَّ الأصالة العربية الإسلامية. أمام هذا الوضع عملت تيارات مشبعة بالقومية على نفي حضور الثقافة الهيلينية في الحقل الثقافي العربي، في مقابل ذلك ظهرت تيارات ليبرالية تسامحت كثيراً لتقبل مسألة التأثير اليوناني في البيان العربي، ومن رواد هذا التيار طه حسين. داخل إطار التأثير والتأثر، أصبح مشروع ابن رشد واحداً من أهم التجليات لانصهار التصورات الفلسفية الأرسطية في البنية الثقافية العربية. وعلى رغم ذلك، فقد عمل ابن رشد من داخل الحضور الأرسطي في مشروعه الثقافي على إبراز الخصوصية العربية الإسلامية في النسيج النظري للشعرية العربية. ويمثل ابن رشد النموذج الراقي للشعرية العربية في الغرب الإسلامي، فقد استطاع أن يبني نظرية شعرية عربية، من خلال تمثله مسار الشعر العربي والفلسفة اليونانية والمشرقية، مع إخلاصه للتراث النقدي والبلاغي العربي. وظهر أن ابن رشد كان شديد الحرص على تذويب المفاهيم الأرسطية داخل نظريته الشعرية، واستبدال بعضها لتعبر عن الخصوصيات الشعرية العربية، فلم نعد مثلاً أمام المحاكاة الأرسطية بالمعنى الذي ناقش به أرسطو إبداع اليونانيين، بل أصبحنا أمام مفهوم التشبيه الذي يستجيب خصوصيات الشعرية العربية. وأبان عن نضج في الممارسة النظرية من جوانب نفسية واجتماعية وأخلاقية سواء تعلق الأمر بالمبدع أم بالمتلقي. لقد بنى ابن رشد تصوراً نظرياً للشعر العربي تماهت فيه الشعرية الهيللينية ورؤى فلاسفة المشرق العربي، بالإضافة إلى زخم من البلاغة العربية وصحح مسار الشعرية العربية، وأعاد تأسيس الصناعة الشعرية العربية في ضوء المنهج العلمي، للوصول إلى درجة الكمال المعرفي والنظري. ولم ينس فيلسوف قرطبة أن الإبداع الشعري العربي مؤطر بالرؤية الدينية، فظل محافظاً على هذا السمت في مقارباته كافة للإبداع الشعري العربي. ومثلما كان مشروع ابن رشد غنياً ومميزاً، كان عمل حازم القرطاجني خصباً ومجدداً ومترجماً لتعالق ثقافي منتج ومفيد، فقد كان كتابه «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» ثورة كبيرة عند المهتمين بالدرس البلاغي؛ لأنه كان استجابة لطموح إصلاحي. لقد بنى حازم مصنفه على تصور عقلاني وثوابت فلسفية واضحة، وكان نسيجاً متفرداً في الغرب الإسلامي. وتعد الفترة الفاصلة بين وفاة ابن رشد (595ه) وولادة حازم القرطاجني (608ه) لحظة متميزة؛ لأنها لم تتعد اثنتي عشرة سنة، وهو زمن يسير في عمر التحول الثقافي. فظهور حازم هو استكمال للمشروع الرشدي في صياغة النظرية الشعرية العربية. وبرز حضور ابن رشد في النسق النظري لحازم وظهر هذا الحضور في (المنهاج) من خلال التحليل ومقاربة المفاهيم، وفي معالجة البعد النفسي عند المبدع والمتلقي، بالإضافة إلى أن شيوخ حازم كانوا تلاميذ ابن رشد. ويخلص الباحث إلى أن حازم القرطاجني ينتمي إلى دائرة النظر الرشدي؛ لأنه ومن خلال مشروعه سيحاول استكمال طموح ابن رشد، حتى وإن لم يعلن ذلك صراحة. فقد وظَّف المقولات الكلية في الشعر لبناء نظرية عربية تتجاوز من خلالها أرسطو نفسه. وجعل حازم من الإرث الأرسطي مرجعاً أساسياً للشعر العربي، ومن شعرية ابن رشد منطلقاً تطبيقياً. لقد حافظ القرطاجني على التصور العام الذي يفصل الشعر عن النثر، والمتمثل في الوزن والقافية، وأضاف مفهوم التخييل باعتباره عنصراً مركزياً اعتمد فيه على مرجعيات فلسفية ظاهرة تعود إلى مباحث علم النفس؛ لأن القوة التأثيرية للإبداع الشعري لها في نفسية المتلقي أبعاد خفية، تظهر من خلال تداعياته واستجابته التخييلية. ويرصد الباحث اختلاف الرؤى بين ابن رشد والقرطاجني، فقد سعى فيلسوف قرطبة إلى توظيف الشعرية الأرسطية لمقاربة الشعر العربي، في حين انطلق القرطاجني من التراكم الشعري العربي لمساءلة القوة التنظيرية التي اكتسبها من تراث فلسفي وبلاغي ممتد من أرسطو إلى ابن رشد. ولكن هناك اختلافاً جوهرياً بين ابن رشد والقرطاجني في النظر إلى المرجعية الأرسطية وحدود تعالقها مع الشعر العربي، حيث آمن فيلسوف قرطبة بكلية النظرية الشعرية الأرسطية إذ يمكن الشعر العربي أن يستجيب لها، في حين يؤكد القرطاجني قصور نظرية أرسطو أمام شساعة الإبداع الشعري العربي. فالأشعار اليونانية لها أغراض محددة في أوزان مخصوصة ومدارها على الخرافات. لم يكن همّ القرطاجني البحث عن مكامن الجمال داخل الكلية الضابطة للغة الشعرية بقدر ما كان مهووساً بمقولة علم الشعر المطلق، الذي حقق من خلاله طموح ابن سينا وكرس رغبة ابن رشد في البحث عن نظرية شعرية تستجيب الخصوصية العربية، وتقدم النظرية الشعرية عن القرطاجني نفسها من خلال النظر في قيم الجمال الذي يتحدد من خلال مفهومي الحسَن والقبيح، وليس من زاوية الخطأ والصواب. لذا سنَّ القرطاجني من داخل الرؤية المنطقية والنسق الفلسفي قانوناً كلياً يحدد الجيد والرديء. فمقارنة النظرية الشعرية من خلال ابن رشد والقرطاجني تكشف عن حضور الفلسفة في البنية البلاغية العربية، في حقبة زمنية اتسمت بالسقوط السياسي في الأندلس، وبتراجع الإبداع الشعري على المستويين الفني والوظيفي.