في الحملات السياسية الإعلامية، نوع يبدأ بفكرة تبدو ساذجة وغير منطقية يتلقفها طرف بحاجة إلى «بروباغاندا» تشتيت أنظار العالم عن مشكلة لدية أو استدراراً للعواطف، إلا أن طرفاً آخر يجدها مادة لإرسال رسالة ضغط في غير اتجاه... وهذا هو حال بروباغاندا صواريخ سكود السورية إلى حزب الله. البداية أتت من خبر مررته صحيفة عربية، والهدف على ما يبدو -على الأقل بحسن النوايا- الإثارة. تلقفته صحيفة إسرائيلية وهنا بدأت اللعبة. إسرائيل تتعرض الى الضغط الأميركي. وتريد تشتيت الانتباه عما تقوم به من استيطان وتعطيل للعملية السلمية. كما تريد استدرار عطف مناصريها في أميركا والعالم الغربي إلى حجم المخاطر «الاستراتيجية» عليها طالما أن صواريخ باليستية قد نقلت إلى عدوها اللبناني. وفي هذا فرصة لإحراج تيار ما وراء المحيط الهادئ الذي تقوده الوزيرة هيلاري كلينتون في وزارة الخارجية الأميركية لتخفيف الضغط. فضلاً عن تعقيد عودة السفير الأميركي إلى دمشق بالتعاون مع أنصار إسرائيل في الكونغرس. ولهذا بدا أن تبنياً لقضية سكود على رغم كاريكاتورية بعده التقني، سيفي بالغرض. ولن نخوض هنا في الجانب التقني المقتول بحثاً إن من حيث استحالة إخفائه وإن من الحاجة إلى عمق يتجاوز طرابلس شمالاً في لبنان لإطلاق يتخذ (القطع الناقص) كمسار للرمي، وصولاً إلى أن هذا ليس مطلوباً في استراتيجية حزب الله القتالية ويكاد أن يكون قراراً بالتثاقل في العمل القتالي لا تحمد عقباه. بدا الأمر كاريكاتورياً لكن الحملات الإعلامية لا تستلزم أحياناً العقلانية والمنطق. المهم حجم التأثير في العموم، وهم جهلة بطبيعة الأحوال بالأمور التقنية. تلقف الأميركيون الحملة بحذر في البداية، وبدأ الضغط على إسرائيل بخصوص الاستيطان والعملية السلمية يذوي إعلامياً. لكن تحولاً نحو تبني الكاريكاتور ذاته بدا مستغرباً في بداياته ليتحول إلى حديث عن تسليح سورية لحزب الله بصورة عامة (بسكود أو من دونه)، والتحذير من مخاطره. وهنا استفاد الأميركيون لتوجيه ضغط الى سورية على محورين خفيين: - محور المفاوضات على المسار الفلسطيني الذي تتخذ سورية موقفاً من استئنافها، من دون تحولٍ إسرائيلي يجنح فعلياً نحو السلم على قاعدة تفاوضية معهودة للضغط على الإسرائيليين وعدم تمرير (تعويم) إسرائيل الغارقة في مأزق ديبلوماسي دولي. - محور العراق وخصوصاً في هذه المرحلة تحضيراً للحكومة المقبلة. لكن المسألة لا تتصل فقط بهذين الشأنين. فالتسريبات عن احتمالات مواجهة مع إيران تقوم بها إسرائيل، وإن كانت تبدو – أيضاً - كاريكاتورية، ردت عليها دمشق بالاجتماع الثلاثي الذي تحدت به الدعوات لقطع الصلة بإيران وبحزب الله، وهو اجتماع (مدفوع الثمن)؛ بمعنى أن الرد الأميركي عليه بالضغط «الكاريكاتوري!» عبر(السكود) ثم بالتركيز على تزويد حزب الله بالسلاح (مطلق سلاح)، كان متوقعاً باعتباره جزءاً من التجاذب والتنافر بين عاصمتين تقودان أو تؤثران –لا فرق- على مجمل الأوضاع الإقليمية الحساسة. والمؤكد هنا أنه بغض النظر عما إذا كانت المجازفة الإسرائيلية باللعب بالنار مع إيران ستتحقق أم لا، فإن الحديث السوري عن حرب شاملة إن تعرض لبنان للخطر، بدا تحولاً استراتيجياً يستدعي رداً وإن كان بالاعتماد على مادة ضعيفة، ولكن الرد أخذ منحى نبهت منه دمشق؛ وهو أن يركب البعض موجته وصولاً إلى السماح بمغامرة إسرائيلية منفلتة من عقالها. المشهد برمته يعج بالضغوط المتبادلة وهدفها سورياً منع العبث باستقرار المنطقة وهروب إسرائيلي نحو المجهول بها، وهدفها أميركياً محاولة تحجيم الدور السوري المتنامي وفتح الطريق أمام الاستراتيجية الأميركية الجديدة. صحيح أن النبرة عالية نسبياً من الجانب الأميركي، لا تمررها سورية إلا بتحذيرات عالية النبرة أيضاً تنبه تارة إلى مخاطر الحرب وتارة إلى مخاطر هذا كله على عملية سلام تراها واشنطن حيوية لمصالحها. بمعنى أن على واشنطن أن تختار بين «سذاجة» اختيارها لمادة الضغط عبر مزاعم إسرائيلية، بمعنى الانحياز شديد اللهجة نحو إسرائيل، وبين عملية سلام هي جزء من قوس قزح استراتيجية خروج تبدأ من العراق وتحط في عملية السلام في المنطقة. بدا واضحاً أن واشنطن تتأرجح بين الضغوط الإسرائيلية ومتطلبات المكانة الإقليمية ومصالحها الحقيقية مع دمشق. ولكن اللافت أنها لا تمنح نفسها فرصة إظهار تمايز عن إسرائيل بالطريقة التي عرفناها مع جيمس بيكر وتقريعه لشامير العلني. وهو أمر لا يجعل أي مراقب على قناعة بأن ثمة في واشنطن من يستطيع اليوم أن يقود عملية سلام ذات أثر إيجابي محتمل. وأنه على رغم أن مصلحة واشنطن القومية، كما نقل عن عدد من المسؤولين الأميركيين، تكمن في إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي، إلا أن واقعين يثلمان أي فاعلية في هذا الاتجاه: - الأول: معاملات الضغط الداخلية للولبي الإسرائيلي في الولاياتالمتحدة. - والثاني واقع أن العالم اليوم هو عالم اللاقطبية، حيث لا تتحكم واشنطن بمقادير العالم، وفي أحسن الأحوال فإنها بحاجة على «كونسرتيوم» دولي لدعم أي توجه لديها، وهذا ما يجعل دورها الضاغط ليس أكثر من عامل من العوامل المتساوية النفوذ مع أطراف إقليمية كإسرائيل أو سورية... ما يعني أن تل أبيب قد تمد لسانها بلا استحياء للمصالح الأميركية والأهم أن إسرائيل ستضع العصي في عجلاتها بطريقة أو بأخرى، إلى أن يرحل ...أوباما 1 وأوباما 2... عالم بلا قطبية يعني أن الكبير يساوي المتوسط ويساوي الصغير أحياناً. وأن منظمات صغيرة هنا وهناك قد تساوي في فاعليتها الإجرائية في الزمان والمكان دولاً عظمى. ستمر زوبعة السكود السوري مثلما انطفأت معها قضية النووي... والسارس وإنفلونزا الخنازير... ذلك أنها للاستهلاك الآني. ذلك أن عالماً بلا قطبية، لا تكون أدوات الكبار للضغط فيه أكثر ذكاءً من مفاعلات نووية في الهواء الطلق وبلا أدوات تبريد ومن دون مفاعلات موازية لأجهزة طرد مركزي هائلة، ومن سكود بطول 11 متراً يقصف فيه حزب الله على مسافة 700 كيلومتر إيطاليا أو ربما مضيق باب المندب. * كاتب سوري