تضيف الناقدة والكاتبة هويدا صالح بعداً آخر لقراءة الهامش في كتابها «الهامش الاجتماعي في الأدب: قراءة سوسيوثقافية» (رؤية، 2015). تموج الثقافة العربية بأدب المهمشين، لكن من الملاحظ أن اهتمام الباحثين في العالم العربي قد ازداد بالهامش والمهمشين في الآونة الأخيرة، وارتفعت وتيرة الاهتمام مع اندلاع الثورات العربية، التي حوّلتنا جميعاً إلى أفراد مهمشين وبلدان مهمشة. وتنوع شكل الاهتمام بالتهميش في تلك الأدبيات، فهناك من بحث في تهميش النساء (كما فعلت مجلة باحثات في اتخاذها الهامش محوراً للعدد رقم 15)، وثمة من أكد أن مشكلة العالم العربي تكمن في تهميش الشباب، بينما ظلّ آخرون متمسكين بالمفهوم الكلاسيكي للتهميش الذي لا ينال سوى الفقراء والمعدمين. وأؤكد على صفة «كلاسيكي»، لأن مسألة التهميش تجاوزت الحالة الاقتصادية والسياسية لتضم كل خطاب مختلف عن خطاب السلطة الراسخ والدعائي. وبمعنى آخر أدى رفض التنوع والتعددية - على كل المستويات المعرفية - إلى اتساع الهامش في شكل كبير مما حوله إلى قوة ايجابية كما تذكر صالح في كتابها. وهو ما دعاها إلى قراءة هذا الهامش في الأدب من منظور اجتماعي ثقافي، والذي يُعد منهجاً قائماً بذاته. عمد الباحثون الغربيون إلى الاستفادة كثيراً من مناهج علم الاجتماع، وتداخل علم الاجتماع مع النقد الأدبي تداخلاً وصل إلى الذروة بظهور النقد الثقافي كمنهج أكاديمي معتمد، ملائم تماماً لقراءة كل الظواهر الثقافية التي تبلورت مع انهيار مركزية الدولة وصعود قوة الأمة، وبالتالي ازدياد القمع. وهذه الظواهر أدّت إلى وجود منتج ثقافي وفني مستقل عن الفن الرسمي والثقافة المركزية. أفادت الباحثة من نظريات علم الاجتماع كثيرا لتؤكد فكرة ارتباط النص بالمجتمع، «فالاجتماعي حاضر بقوة في أي فعل كتابة» (32)، أو كما قال إدوارد سعيد، النص هو حدث في العالم. وأفادت من نظريات النقد الثقافي الذي كان عبدالله الغذامي أول من قدمه باللغة العربية. وفي هذا السياق لم تتجاهل الباحثة تحليل البنية الدلالية للسرد بوصفها مرتبطة بالبنية الاجتماعية، وهو ما كان الإيطالي فرانكو موريتي تناوله من منظور مغاير حيث أكد تأثير البنى الاجتماعية والسياسية في ازدهار نوع أدبي بعينه، وكذلك فعل الناقد البريطاني تيري إيجلتون. إلا أن الباحثة تُولي الكثير من الاهتمام بلغة أدب المُهمشين وهو ما ظهر في الفصل الأخير من الكتاب والذي يتناول سمات هذا الأدب بوصفه يعتمد بلاغة تفضح السلطة، وتقدم خطاباً بديلاً لتلك السطوة المركزية. أما الجزء اللافت إيجاباً في كتاب «الهامش الاجتماعي للآدب» فهو تمثل الباحثة لمسألة الهامش وإعادة انتاجه في بنية الكتاب. أي أن الكتاب الذي يري أن الهامش هو قوة ايجابية أعاد انتاج هوامش أضافت الكثير للبحث. وكأنها تمثلت قول أحمد شراك المغربي في شرحه لدريدا «لا وجود لهامش أبيض أو عذري أو فارغ، وإنما هناك وجود نص آخر من دون أي مركزية للمرجعية» (44). جاءت هوامش الكتاب وكأنها نص موازٍ بالفعل، نص ممتع، يضيء ما يُفترض أنه المتن ويتحاور معه، حتى أنه يُمكن قراءة الاثنين معاً، من دون فصل. وهو ما يمنح الهامش صفات المتن، ويجعله جزءاً من المركز. وكأنه لا وجود لمركز من دون هامش (على رغم أن المقولة الأصلية هي العكس تماماً). فالهامش هنا ليس موازياً للمتن، وهو ليس محاولة للمراوغة وقول المسكوت عنه، كما فعل الجاحظ مثلاً في كتابه «البيان والتبيين» (وقد ذكرت الباحثة ذلك في تتبعها لأصل الهامش في الذهنية العربية)، أو كما فعلت رجاء العالم في كتاباتها، بل إن الهامش لدى هويدا صالح يطاول المتن ويخلخل المركز، يفرض وجوده، ويعوق المتن عن الاكتمال من دونه. الهامش إذاً هو مركز قائم بذاته في قوته وتعدديته وفي قدرته على توضيح المتن وإثرائه. فبدلاً من أن تتناول هوامش السرد أو الكتابة، قامت الباحثة بالفعل من دون التنظير له، ذاك الفعل الذي دفع دريدا مثلاً إلى دراسة هوامش الكثير من النصوص الفلسفية. تترك صالح هذا الفعل لملاحظة القارئ (الذي ينبغي أن يقوم بدوره) وتؤكد في المتن «إن الخطاب الذي يقوم على توظيف الهوامش إنما يراد به تقوية المكتوب وتعضيده...» (45). أما السؤال المحوري فيبقى: هل تكلمت الباحثة في كتابها بالنيابة عن المهمشين؟ فإذا كانت قد فعلت لا يُمكن أن نتجاهل نقد جاياتري سبيفاك لمدرسة دراسات التابع التي تأسست في الهند، وهو النقد الذي أوضحته تفصيلاً في مقالها الشهير «هل يُمكن للتابع أن يتكلم؟» (1988). لقد ارتأت أنّ الكلام بلسان التابع يُعيد المجتمع الى فخ الاستعمار الذي يُحاول الإفلات منه في دراسات ما بعد الاستعمار، وذلك للافتراض الطوباوي الذي يعمد إلى طرح هوية قومية جماعية تتجاهل الاختلاف والتنوع. سواء بقصد أو من دون قصد، لم تسقط صالح في هذا الفخ، بل إنّ الهامش لديها يعني في ما يعنيه الإقرار بمعنى الاختلاف، وهو ما اتضح في تفنيدها لأصل الهامش في الذهنية العربية، وفي نوعية الهوامش التي تناولتها في الكتاب: الدين والمكان والجندر والعرق. تتكلم الباحثة من قلب الهامش ولا تتكلم بالنيابة عنه، ففي كشفها عن خطاب مضاد للخطاب الرسمي (الذي يكتسب قوته من إعادة إنتاجه نخبوياً) تكشف هويدا صالح عن أشكال عديدة لمقاومة السلطة، قائمة في الأساس على المقاومة اللغوية والثقافية، وهو ما يذكّرنا بكتاب جايمس سكوت «المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم» (1990). ومن هنا يُعدّ الكتاب، إضافة إلى المكتبة العربية لكونه مكتوباً باللغة العربية، ويُوثق لكل الدراسات العربية التي ظهرت في هذا المجال، ويكشف المزيد عن «بلاغة الغلابة» التي كان لفريال غزول السبق في الكتابة عنها عام 1988.