عنوان مبتكر هو «التهميش في المجتمعات العربية - كبحاً وإطلاقاً» حمله الكتاب الخامس عشر الصادر عن «تجمع الباحثات اللبنانيات» (إصدار دار جداول). ويعتمد الابتكار في هذا العنوان على رد الاعتبار إلى منظومة التهميش التي تُعد أحدى مناطق الضعف التي تُحدد علاقات القوة في شكل عام، فنعرف يقيناً أن النساء مُهمشات، والفقراء مهمشون، والأقليات مُهمشة، وننسى دائماً أن التهميش هو ما يدفعنا إلى الفعل وبخاصة الفعل الثوري الذي يتمرد على وضعية التهميش. تُوضح المقدمة أسباب تناول إشكالية التهميش، فالمجتمع العربي الذي يعاني بأكمله التهميش الخارجي يُعيد إنتاج منظومة التهميش داخلياً، «كان من الطبيعي أن يجذبنا استقصاء الهامش الذي نقع ضمنه، ومن الطبيعي أن تستهوينا هوامش هوامشنا». لكنّ مسألة الاستقصاء لم تسع إلى رصد رقعة التهميش وفقط، بل اعتمدت الرؤية بدءاً من منطلق إيجابي يقارب الموضوع «جدلياً - ديالكتيكياً»، لأنه «مقابل كل كبح هناك انطلاق، وإزاء كل استبعاد هناك محاولات التفاف تشحذ الطاقات المبدعة، وكل حاجز يستنفر من يتخطاه». بهذه الرؤية الديالكتيكية يتمّ تناول الهامش كفضاء إبداعي محفّز على الفعل، يمتلك حريته الخاصة ورؤيته الفريدة التي تختلف بالضرورة عن الرؤية من المركز. وهو ما أكدته دراسات ما بعد البنيوية، فوجد الفرنسي ميشال فوكو في دراسته للخطاب أن كلّ مركز قوة يفرز مباشرة نقطة مقاومة تبدو ظاهراً أنها مُهمشة لكنّها في حقيقة الأمر تعمل على خلخلة المركز، ثم أعلن إدوارد سعيد أن قوة المثقف تنبع من بقائه في الهامش ليطرح على المركز كل الأسئلة المزعجة. يشتمل المحور الأول، وعنوانه «نقد أنماط بنى سائدة في العلم والقانون والسياسة»، على دراسات تركز على مناطق الضعف الكامنة في المنظومة المعرفية التي تحكم البنى السائدة كالطب النفسي الذي يأخذ بكل مجريات الحداثة ويتجاهل الذات (أنيسة الأمين)، وهو التجاهل نفسه الذي يُمارس ضد تاريخ المتصوفات (هالة فؤاد)، بل إنه قد يصل إلى شكل التهميش الكامل لمدن كطرابلس (نهلا الشهال). ويظهر التهميش أيضاً في مسار إقرار القوانين التي تحمي النساء من العنف (ماري روز زلزل)، وفي التواجد النسائي في الأحزاب السياسية الذي يُشكل علاقة عكسية مع مستوى التدين (فاطمة قاسم)، وفي موقع الأقليات (رؤية شعرية لروز دباس). تقدم هذه الأنماط ما يشبه الدليل لقراءة التهميش في المجتمعات العربية، وهو ما يفسر تناول المحور الثاني، «التفلت من بنى سلطوية مهيمنة»، أشكال الالتفاف حول هذا التهميش عبر أشكال إبداعية متعددة، أكثر ما يلفت فيها هو تحويل جثة الميت إلى وسيلة لمقاومة منظمة الاحتلال الصهيوني، وذلك منذ إعلان الموت وحتى لحظة الدفن (نادرة شلهوب وسهاد الناشف). وعلى المستوى الأدبي تقدم نجلاء حمادة قراءة للهامش (شكلاً ومضموناً) في نصين نسويين وبالمثل يرصد المستعرب لين فنغمين خروج الأدب العربي المترجم إلى الصينية من الفضاء الهامشي. تعود القوانين مرة أخرى ليظهر دور المُشرع في حماية الأطفال غير الشرعيين في الجزائر (شمامة خير الدين)، وتقرأ هدى الصدة صعود -ونشأة -حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات المصرية كمبادرة نشأت في الهامش واكتسبت قوتها منه. وإذا كانت مدينة طرابلس تعاني التهميش كنمط سائد في التعامل مع بعض المدن، فإن بلدة كفرشوبا الجنوبية اللبنانية بدأت تنفض غبار التهميش الذي عانته طويلاً (قاسم القادري). تعلن ندى بركات في شهادتها عن القوة المعرفية التي اكتسبتها عبر عملها مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة. ولا يفوت هذا المحور أن يقدم قراءة في مبادئ العقيدة البهائية (هدى المعماري). وفي سياق الالتفاف حول التهميش وتحويله إلى فضاء إبداعي لا يمكن إلا أن أعلن انحيازي الكامل لنتائج المائدة المستديرة التي عقدها «تجمع باحثات» ليستنطقن أنفسهن كذوات تعمل في مجال الفكر والثقافة حول شعورهن بالتهميش عبر تضفير الخاص والعام. يتناول المحور الثالث ما يشبه دراسات حالة توضح استخدام «وسائل أو أساليب تعبير إعلامية واتصالية بديلة» لمقاومة التهميش. يطرح المحور إشكالية مزمنة ذات علاقة وثيقة بالحراك الثوري في المنطقة العربية وهي موقع النساء في المجال العام وكيفية تغلبهن على التهميش عبر الفضاء الإلكتروني (نهوند القادري عيسى)، ويجب ألاّ ننسى أن الإعلام البديل كان له دور كبير قبل الحراك الثوري كما حدث في تونس (درة العطري). ثم يظهر غناء الراب كوسيلة فنية للمقاومة في البقاع (زينب خليل) وفي تونس (آمال قرامي). تجول بيسان طي بحركة كاميرا متخيلة لترصد صعود الشباب المُهمش في المشهد المصري عبر وسائل إعلام بديلة، وهو ما يفعله الشباب الجزائري كما أوضح نصر الدين لعياضي. وأحياناً يقوم المهمش بتوظيف الصحافة للإبقاء على قضيته في دائرة الضوء كما شرحت مهى زراقط. ويركز المحور الأخير على الفن والأدب كمجال حيوي لتحويل الهامش إلى مركز قوة عبر إنتاج خطاب مغاير، وفي هذا يحظى المسرح بمساحة كبيرة. فهناك مسرح المضطهدين (ميسون علي)، والتحول من موضوع إلى ذات في النص المسرحي النسوي (وطفاء حمادي)، ومقاومة المرأة أشكال التهميش وصوره في المسرح الجزائري (جميلة الزقاي). أما في الرواية فهناك دائماً المغردون خارج السرب مثل محمد أبي سمرا وسليم بركات (نازك سابا يارد)، ومع الأكراد تتحول القصيدة إلى هامش سلطة (ديانا جبور)، لتبقى الكتابة سبيلاً للوجود (شهادة فاديا حطيط)، ومثلها الترجمة (أدمون غريب). تتباين الأوراق في هذا الكتاب ما بين أبحاث أكاديمية وأخرى تقدم انطباعات موثقة أو ترصد تجربة على أرض الواقع، ويكتسب الكتاب صدقية ذاتية من الشهادات (وهو أسلوب تتبعه كتب «باحثات» دائماً). لا يُغني هذا العرض السريع عن قراءة متأنية لمادة ثمينة تعيد الاعتبار للهامش وتكشف عن مناطقه المعتمة التي تحمل الكثير من التعقيد في تفاعل علاقات القوة. يتراوح سؤال الهامش ما بين تهميش نعرفه ونسعى للالتفاف عليه، وتهميش نكتشفه أثناء السؤال - يشبه العنف الرمزي لبورديو - فنحوله إلى هامش قوة. وما بين التهميش كبحاً وإطلاقاً يطرح هذا الكتاب أمام القارئ والباحث أسئلة جديدة محفزة على الاشتباك مع الهامش بوصفه قوة وضعفاً ومقاومة.