في ساحتنا الثقافية المحلية ثمة كُتاب دأبوا طويلاً على مهاجمة المؤسسة الدينية بحجة أنها تصادر الحريات وتمارس الرقابة (وهي ليست بريئة من هذا) وأصبح كل همهم الكتابة في هذا الشأن والدندنة طويلاً على هذا الوتر - الذي فيما يبدو يحدث رنينًا طاغيًا وصخبًا عاليًا ويضع من لا يستحق في دائرة الضوء الواسعة - والقول دائماً بأن كتبهم تتعرض للمصادرة من هذه الجهة، بل إنهم لا يكفون عن توزيع هذه الأقاويل على الآخرين عبر رسائل الجوال القصيرة بصفتها أخبارًا تستحق النشر والذيوع والتوزيع، وأن المعنيين بهذه الأخبار هم مناضلون على جبهة الفكر والإبداع والحرية، وأنهم ضحايا يستحقون الدعم والمساندة، فضلاً عن تكريس ذلك في العديد من المواقع والمنتديات الثقافية على النت وتضخيم الحدث الصغير والنفخ فيه وجعله كارثة كبرى وزلزلة قيامية هائلة! وهم - جراء ذلك - حصدوا شهرة كبيرة، مع أن أكثرهم على الصعيد الإبداعي يفتقد للموهبة الحقة، أكثرهم على صعيد الإبداع لا يكتب شيئاً ذا بال في العادة، وإذا صدر لأحدهم عمل واتفق الجميع على أنه جيد فثِق تماماً أن هناك من يكتب له، بدليل أن صحافيةً، كانت زميلة لنا في إحدى الصحف، كانت لا تحسن الكتابة أبدًا، وكانت تكتب بأسلوب ركيك جداً، وإذا كتبت سطرين فقط فإن هذين السطرين يأتيان محتشدين بالأخطاء الفادحة في أبسط قواعد النحو والإملاء، وكان هناك من يتولى صياغة أخبارها وتحقيقاتها وحواراتها ومقالاتها. هذه الصحافية أضحت روائية في وقت وجيز، وصدرت لها رواية عن دار نشر عربية ذائعة الصيت، عندما قرأتها امتلأتُ بالدهشة وتملكني العجب: كيف تسنى لهذه أن تكتب بهذه اللغة الفارهة وهذا الأسلوب الجميل؟ طبعاً هي ليست ممن يستطيعون أن يتعلموا الكتابة السردية الجيدة في خمسة أيام! ولكن - وهذا هو المؤكد - هناك من كتب لها هذه الرواية، وما يثقب القلب حقاً أن هذه الروائية ُتدعَى من جهات ثقافية عربية لها شأنها للتحدث عن تجربتها الروائية وعن الكتابة السردية في المملكة وعن وضع المرأة في بلادنا، وهي لم تقرأ في حياتها كتابًا واحدًا! إن الكثيرين ممن صدّعوا رؤوسنا بالكتابة عن المؤسسة الدينية، لا يحسنون كتابة نص يدير إليه الأعناق... ومع هذا نجد أن هناك من يستضيفهم على شاشة التلفزيون في تلك البرامج التي أضحت تحظى بنسبة مشاهدة عالية وذات جماهيرية كبيرة أيضاً، ويتم تقديم المستضاف للناس على أنه (مبدع) أو (مبدعة) مع أن (إبداعه) أو (إبداعها) لا يستحق أن ينشر حتى في صفحة القراء! وثمة برنامج - على سبيل المثال - سقط من عيني هو ومقدمه لأنه بات يسعى إلى الإثارة فقط، فهو في حلقة يستضيف قامة ثقافية مهمة مثل (محمد أركون) وفي حلقة أخرى يستضيف كاتبة عادية جداً أو بالأحرى كاتبة مبتدئة، فقط لأنها في مقالاتها الصحافية تنتقد المؤسسة الدينية دائماً، لكن ماذا قدمت في الحقل الإبداعي الذي تصر على أنها تنتمي إليه؟ قدمت خواطر عادية جداً في كتاب، ووجدت من يصفق لها معتبراً هذا الكلام شعراً، وناظراً إلى تلك الخواطر العادية على أنها (ديوان)، وهي هنا ليست سوى مثال فقط، لأن القائمة طويلة جداً، ومن هذه القائمة الطويلة جداً والعادية جداً تجد من يحظى بالاستضافة السخية على حساب الجهات المعنية بالثقافة في بلادنا لحضور فعاليات معرض الكتاب - مثلاً - كما تجد من يمثلنا ويمثل ثقافتنا دائماً في المحافل الثقافية خارج الوطن مع أن هناك أسماء مهمة كرّست حياتها للإبداع الجميل والمتجاوز والمشرف للذات وللساحة وللوطن يتم تهميشها والقفز عليها وعلى تجربتها وتاريخها وإنتاجها عند انتقاء أعضاء الوفد المسافر إلى الخارج لتمثيل ثقافتنا. أيضاً، لماذا لم يلتفت هؤلاء إلى نقد النص - وهو ما أشار إليه الناقد المحترم محمد العباس في مقالته الشجاعة التي جاءت بعنوان: (النص في المكان العدو) ونشرها في الملحق الثقافي لصحيفة «الرياض» - إن هؤلاء الكتاب الذين كرسوا حبرهم لنقد المؤسسة الدينية (وهي تستحق النقد) لماذا لم يتصدوا نقدياً وبالشجاعة ذاتها إلى تلك الكتب التافهة وتلك النصوص العادية وتلك الدواوين الباهتة والروايات الرديئة؟ لماذا أداروا ظهورهم لهذا كله واكتفوا بنقد جهة واحدة؟ لماذا اكتفوا بالتطبيل لكل نص عادي وكيل المدائح لصاحبه طالما كان همهم تكريس المعتدل ونقد المائل ومكاشفة كل زائف من الإبداع والوعي! أليس البيت الثقافي لدينا بحاجة إلى إصلاح؟ بحاجة إلى نقد صادق وشجاع؟ بحاجة إلى القراءة الموضوعية البعيدة عن أي تفكير في الربح والخسارة، إذ بات من المؤلم حقاً اختلاط صوت البلابل بالغربان في المشهد الثقافي المحلي وهذا لم يحدث إلا بسبب غياب النقد. نعم، لماذا لا نتوجه إلى البيت الثقافي لدينا بالنقد الحقيقي، النقد الذي لا يمارس المجاملة و(الطبطبة) والتربيت على الأكتاف؟ ولا سيما بعد أن دخل هذا البيت الطارئون والفارغون والباحثون عن الشهرة والذيوع واعتلاء المنابر الثقافية وتصدر الواجهات من دون زاد ٍ ثقافي حقيقي، ولا سيما أن هؤلاء هم أصلاً لم ينالوا حظاً من الموهبة، ولم يقرأوا سوى نتف من هنا أو هناك، ولم تنحنِ ظهورهم من فرط القراءة ومكابدة التثقيف، ولم يحملوا معهم إلى الساحة سوى الصخب الفارغ والضجيج العقيم... فماذا تفيد الساحة من كل هذا الصخب وكل هذا الضجيج؟ وعش رجبًا ترَ عجبًا. * شاعر وكاتب.