أثبتت الأزمة التي تنخر الدولة الأوكرانية والمجتمع بعد نحو سنتين على ما عرف بأسم «ثورة الكرامة» التي أطاحت دمية روسيا في الحكم فيكتور يانوكوفيتش ان الاتحاد الأوروبي يفتقر الى استراتيجية ورؤيا متكاملة لمواجهة تداعيات تطورات الأحداث وتفاعلاتها في اوكرانيا بعد سنتين على التغيير، ومن ثم بعد عام على التدخل الروسي وقضم شبه جزيرة القرم وإلحاقه بالفيديرالية الروسية، على خلاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعرف ما يريد وكيف يصل إلى تحقيق أهدافه، وأظهر خصومه الأوروبيون، حينما استجاب مطلبهم الأساسي وفعل ما كانوا يريدونه بأرغامه وكلاءه المحليين (الانفصاليون الناطقون بالروسية) في الأجزاء الشرقية من البلاد على وقف إطلاق النار فاتحاً بذلك (علبة الباندورا) الأوكرانية!. أول نتائج رفع الغطاء عن الحرب الأهلية الدائرة بين كييف والانفصاليين تمثل في بروز الانقسامات الداخلية بين القوى والأحزاب السياسية المناهضة لروسيا، لتكشف عن حالة يرثى لها من عدم اهلية وكفاءة النخب السياسية التي تزعمت التغيير السياسي وعجزها عن الإمساك بالفرصة المتاحة امامها لبناء الأسس الأولى للديموقراطية وتحصين الدولة والمجتمع ضد الظواهر السلبية التي يعتبر ظهورها أمراً حتمياً في المرحلة الانتقالية، والشروع بإيجاد الحلول للمعضلات الكبرى التي تواجه البلاد، بحيث ارتسمت أمام الحليفين الأوروبي والأميركي لوحة مماثلة عما حصل في بلدان أوروبا الشرقية بعد انهيار انظمتها الشيوعية تعكس بمحتواها وشكلها تبلور نخب سياسية فاسدة وعاجزة خرجت من رحم ما بعد النظام السوفياتي البائد، ولا غرابة في هذه الحال ان تحدث تصدعات وشقوق في العلاقة بين كييف والغرب. أحزاب شعبوية وإصلاحات متأرجحة الفوضى هي السمة الأكثر وضوحاً في الحكومة الحالية التي مر على تشكيلها اكثر من سنتين، اذ هي اخفقت بالتحكم بمسار الأوضاع التي تشهدها البلاد وبدت ضعيفة وهشة ومهزوزة نتيجة التعارضات العميقة بين اطراف التحالف الحاكم والتي كان احد مظاهرها محاولة الاعتداء على رئيسها أرسيني ياتسنيوك عندما كان يتحدث امام البرلمان حيث باغته احد نواب حزب رئيس الدولة بيترو بوريشينكو، وحاول ازاحته بالقوة عن المنبر. ويأتي موقع حزب ياتسينوك في المرتبة الثانية من حيث التأثير والنفوذ في اوكرانيا. يشكل ممثلو الأحزاب الشعبوية غالبية في السلطة التشريعية ما يعرقل ويصعب للغاية اي محاولة يبديها النواب ذوو التوجهات الأوروبية لتمرير الإصلاحات المهمة والضرورية، هذا لو كان من بينهم من يسعى فعلاً إلى تطبيقها، ولكن مجموعة من ممثلي الجيل الجديد من البيروقراطيين قاموا بمحاولات متتالية لكسر الطوق المفروض على مبادراتهم التشريعية الرامية الى أجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية ولكنها بقيت حبراً على ورق كونهم لا يمتلكون الغالبية الكافية لتمريرها، هذا في حين يظل امر بقاء ياتسينوك على رأس الحكومة امراً مشكوكاً فيه على خلفية تهديدات المعارضة المتكررة له بسحب الثقة من حكومته، وحتى لو بادر هو شخصياً وقدم استقالته فإنه آنذاك لا مفر من اجراء انتخابات مبكرة لصعوبة تشكيل حكومة جديدة في ظل التركيبة السياسية وميزان القوى الراهن في البرلمان. في هذا الخضم من الصراعات السياسية والعدوان الروسي، تواجه البلاد عجزاً مالياً متواصلاً مع ارتفاع ديونها الداخلية والخارجية، ويرى خبراء المال أن مستويات الضرائب ومعدلاتها عالية للغاية بالقياس الى الدول المجاورة، ما يدفع الغالبية من رجال الأعمال والشركات والسكان الى اتباع طرق ملتوية للتهرب عن دفعها، في وقت يتّسع فيه ويكبر حجم اقتصاد الظل ما ادى الى تحول صندوق النقد الدولي الى المصدر الرئيسي للعملات الصعبة التي تحتاجها الدولة بعد الانخفاض المريع في حجم التصديرات الى الخارج. وتشير البيانات الرسمية الى تراجع الناتج القومي الإجمالي في البلاد بمعدل 11 في المئة العام الماضي. أظهرت دراسة أعدتها غرفة التجارة الأميركية في أوكرانيا «أن 73 في المئة من الأوكرانيين يشيرون إلى أن حجم الفساد ما زال في ظل الحكومة الحالية كما كان عليه خلال فترة حكم يانوكوفيتش. ويتضح من استطلاع أجرته الوكالة الدولية للمنظومات الإلكترونية (Internationl Foundation for Eletoral Systes-IFES)» أن 40 في المئة من الأوكرانيين أكدوا بأنهم اصطدموا بحالات فساد عام 2015، في مقابل 37 في المئة خلال نيسان (أبريل) من العام 2014». واعترف الرئيس بوروشينكو بتفشي الفاسد وتعمق الأوضاع الشاذه في البلاد» وقال في تصريح إلى وكالة «رويترز»: «الوضع لم يتغير كثيراً عن السابق، ولكنني لن أتوقف عن الحرب ضد الفساد وبكل الوسائل والأدوات القانونية». غير ان حزب «العون الذاتي» المشارك في الائتلاف الحاكم اتهم الرئيس شخصياً بعدم الإيفاء بوعوده بشن حرب لا هوادة فيها ضد الفساد»، وقال النائب عن الحزب إيغور سوبوليف في تصريح إلى وكالة «فرانس برس»: «عار على الرئيس الذي انتخبه الشعب ليكافح الفساد ويقوم بتطبيق اصلاحات في المؤسسة القضائية لتأمين استقلاليتها عن السلطة ومنع وقوعها تحت سيطرة المافيا السياسية ان يدير ظهره لناخبيه وشعبه ويترك الأوضاع لتصبح أسوأ مما كانت عليه في السابق». تحسين ياسين يعمل مديراً عاماً لشركة (Danone Nutricia) في اوكرانيا، وهي واحدة من فروع المؤسسة الفرنسية لصناعة الأغذية المنتشرة في اوروبا الشرقية ابلغ وكالة «رويترز» انه» لم يستطع لأسباب قانونية ان يفصح عن تعرضه لابتزاز من قبل موظفي مصلحة الضرائب الحكومية الذين هددوه بأنهم سيقومون بتدقيق حسابات شركته اذا لم يدفع لهم المبلغ الذي طلبوه» ولهذا «قرر الصمت خوفاً من تعرضه لانتقامهم»، ولكنه وصف للوكالة نفسها اساليبهم وأهدافهم بكلمة واحدة (مافياوية). على رغم أن ياسين يقيم ويعمل في أوكرانيا منذ العام 2001، فإن شركته دفعت مبالغ ضريبية أعلى مما هو محدد بالقانون بنسبة قدرها ما بين 15 - 20 في المئة بعد عملية تدقيق استمرت خمسة اسابيع بحث خلالها الجباة عن هفوات ولو تافهة ارتكبها موظفو دائرة حسابات الشركة. بعد اطاحتهم نظام يانوكوفيتش في العام 2014 وعد السياسيون الجدد من ذوي التوجهات الأوروبية الغربية الشعب بقلع منظومة الفساد التي ازدهرت خلال سنوات النظام السابق من جذورها، وإنهاء الأوضاع الشاذة التي تجعل من البلاد تعتمد بالكامل على المساعدات التي تقدمها موسكو وشحنات الغاز الروسية. ولكن القليل من هذا لم يحصل، بل العكس تماماً فالفساد والإفساد اكتسبا ابعاداً خطيرة لدرجة تهدد بتقويض أعمدة المجتمع، ودفع المستثمرين الأجانب الى تحويل اموالهم الى دول اخرى في المنطقة اكثر حزماً في تطبيق سيادة القانون وفي مكافحة الفساد في اوساط الطبقة الحاكمة والأوليغارشية المرتبطة بالحكومة، وكذلك بثّ الشكوك لدى حلفاء كييف وداعمي النظام الجديد في قدرته على إحداث التغييرات والإصلاحات الحقيقية التي تقرّب أوكرانيا من المعايير الغربية. إحدى النتائج الخطيرة على مستقبل النظام ووجوده التي ستنجم عن الفشل في القضاء على الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والنخب السياسية في الحكم والبرلمان تتمثل في خسارة صفقة «الأموال في مقابل الإصلاحات» التي تبلغ قيمتها 40 بليون دولار والتي حافظت بفضل دعم صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حتى الآن على اقتصاد الدولة من الانهيار في وقت تخوض فيه الحكومة حرباً معقدة مع الانفصاليين الموالين والمدعومين مالياً وعسكرياً من الكرملين. تنامي ظاهرة الفساد والفشل في كبح جماح المسؤولين الكبار من استخدام النفوذ لمصالح شخصية أرغم وزير الاقتصاد إيفاراس أبرومافيسيوس على تقديم استقالته، بسبب عرقلة جهوده الإصلاحية، على حد قوله. والوزير هو ليتواني الجنسية، استعانت به كييف ضمن جهودها لإنعاش اقتصاد البلاد. وجاءت هذه الاستقالة وسط استياء برلماني من سياسة الرئيس بوروشينكو، كما وسط وصراع بين مختلف الفرقاء السياسيين المرتبطين بجماعات من الأوليغارشية تهيمن على صفقات الدولة بالكامل وتستنزف المال العالم لمصلحة شركاتها التي تفوز تقريباً بكل المناقصات التي تعلنها الحكومة. وقال أبرومافيسيوس وهو احد التكنوقراط الأجانب الذين تمت الاستعانة بهم لاجتثاث الفساد «لا أريد أن أكون سحابة دخان للفساد الواضح، أو أكون دمية لأولئك الذين يريدون العودة للسيطرة والتحكم بموارد الدولة على منوال الحكومة القديمة» واتهم في تصريح صحافي شخصيات نافذة في شركة النفط والطاقة والمجمع الصناعي الحربي بمحاولة السيطرة على الموارد المالية للدولة، وفي مقدمهم نائب رئيس كتلة بوروشينكو في البرلمان إيغور كونونكو الذي كما اكد «أجبره على تعيين شخصيات رغماً عنه في مواقع رئيسية في شركات الطاقة ومؤسسات الإنتاج الحربي». أبرومافيسيوس ليس الأجنبي الوحيد الذي تستعين به حكومة كييف لدفع عجلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية الى الأمام، فرئيس جورجيا السابق ميخائيل ساكاشفيلي يحتل منذ الصيف الماضي منصب حاكم ولاية أوديسا بقرار من الرئيس بورشينكو. وكان قدم العام الماضي إلى الحكومة الأوكرانية إستراتيجية شاملة للإصلاحات، ولكنها لم تحصل على دعم الرئيس والبرلمان، وكان مصيرها في سلة المهملات. اصطدم ساكاشفيلي هو الآخر خلال اجتماع لمجلس الوزراء مع وزير الداخلية آرسين أفاكوف، الذي كان قبل توزيره مصرفياً ورجل أعمال حيث اتهمه بارتكاب مخالفات وصاح بوجهه «سأثبت أنك لص»، وعندها ألقى أفاكوف باتجاهه زجاجة مياه صائحاً بوجهه «أنت نذل ومهرج... اخرج من بلادي!». وغرّد السفير الأميركي جيفري بايات على «تويتر» دعماً لوزير الاقتصاد ، ووصفه بأنه «واحد من اأبطال الإصلاح» في البلاد. وإضافة إلى ساكاشفيلي عيّن بوروشينكو أيضاً ناتالي جاريسكو، وهو خبير مالي أميركي المولد، وزيراً للمالية، وماريا غايدار وهي روسية من المدافعين عن الإصلاح نائبة لساكاشفيلي. اليد الطولى للسفير اتساع الهوة بين الساسة والأوليغارشية من جهة والتيار الإصلاحي في الحكومة المدعومة من الغرب من جهة اخرى، يعمق الأزمة في البلاد ويعيق القيام بالإصلاحات الضرورية في المؤسسة القضائية التي تغرق في الفساد والزبائنية. وقال مبعوث الأممالمتحدة الخاص بمراقبة السجون والأحكام التعسفية كريستوف هاينز في تقرير قدمه الى الأمين العام بان كي مون بعد زيارة قام بها في ايلول (سبتمبر) الماضي الى العاصمة الأوكرانية: «تغرق هذه الدولة في بحر من انعدام الشعور بالمسؤولية والانتهاكات القانونية». ذكر هاينز في تقريره «أن السلطات القضائية الأوكرانية أفشلت تحقيقات وتحريات تهدف إلى الكشف عن المسؤولين عن قتل أكثر من 100 شخص في شوارع كييف خلال فترة الانتفاضة التي عمّت البلاد ضد نظام يانوكوفيتش، إضافة إلى مقتل 48 من المتظاهرين الداعمين لروسيا في مبنى النقابات في أوديسا العام 2014»، مشيراً الى «ان السلطة الحاكمة عرقلت عمداً التحقيق بهاتين القضيتين على رغم محاولات محامي الضحايا نقلهما الى المحاكم، وذلك بسبب ان بعض المشتبه بأرتكابهم الجرائم ما زالوا يعملون في وزارة الداخلية». سنتان مرتا على الإطاحة بنظام يانوكوفيتش، ومع ذلك يجتاح تسونامي الفساد المؤسسة القضائية، وقال هاينز «إن الأجهزة الأمنية الأوكرانية فوق القانون»، منبهاً الى «ان عناصر الأمن يشنون عمليات مداهمة وتفتيش ضد شركات التكنولوجيا والتقنيات المعاصرة بهدف اثارة الرعب في نفوس مالكيها والعاملين فيها وابتزازهم»، كما «قاموا باعتقال غينادي كوربان أحد أقرب مساعدي رجل الأعمال الشهير أيغور كولومويسكي الذي اتخذ موقفاً معارضاً لدعم بوروشينكو في المنصب الرئاسي». تتصدّى الميديا بمختلف أنواعها للفساد، ويقوم كتاب الصحافة الاستقصائية بنشر تحقيقات جريئة عن الفساد في أوساط النخبة الحاكمة و الأحزاب السياسية، وحتى ضد الرئيس بوروشينكو شخصياً الذي يصنّف ضمن 10 من أغنى أثرياء أوكرانيا. وكثيراً ما تأتي الصحف على ذكر الرئيس بوروشينكو الذي تمكن خلال العام الماضي من مضاعفة رأسماله بمليارات عدة من الدولارات، وتشير الى انه «تناسى وعوده التي تعهد بها خلال حملاته الانتخابية ببيع شركاته وأعماله حال فوزه بكرسي الرئاسة»، وقالت إنه «في الوقت الذي أفلست مصارف عدة، ارتفع رأسمال البنك الذي يملكه الرئيس أضعافاً عدة»، وتتحدث وسائل الإعلام عن شخصيات مقربة ومتحالفة مع الرئيس ورئيس الحكومة ياتسينوك تقول إنها متورطة في فضائح فساد ونهب المال العام بالاشترك مع مسؤولين كبار في الجمارك وشركات الطاقة». وكتب الصحافي الأكثر شهرة في أوكرانيا سيرغي ليش جينكو الذي أصبح نائباً ضمن كتلة حزب الرئيس في البرلمان «ان بوروشينكو ومعه ياتسينوك تعهدا للأميركيين بالرقابة المتبادلة أحدهما للآخر والحفاظ على التوازن السياسي عند اتخاذ القرارات المهمة لكنهما استبدلاها لاحقاً بصفقة تقاسم السلطة، ومناطق النفوذ والمسؤوليات في شكل يؤمّن عدم اصطدام أحدهما بالآخر أو الدخول في منازعات أو نزاعات». ويرى مراقبون ومحللون أن الأميركيين يتحكّمون بالعملية السياسية الجارية في البلاد لدرجة أن السفارة الأميركية في كييف تحولت إلى مركز القرار الأول في السلطة، فبالتشاور مع السفير بايات تتخذ قرارات تعيين المسؤولين الكبار في الدولة وفصلهم، وفي بعض الحالات تتم العودة إلى نائب الرئيس جو بايدن. ووفقاً لما ذكره ليش جينكو فإن «الإدارة الأميركية والسفير بايات يقفون على قمة هرم النفوذ لأول مرة في تاريخ أوكرانيا المستقلة».