I. أرَق 1 أتردّد في الحديث معك: نستطيع أن نتبادل الرّأي حول أقدم امرأة جميلة، وأقدم رجل جميل (لا أقصد حوّاء أو آدم). أستطيع أن أتحدّث معك عن الطبيعة وما وراءها، عن الأساطير، عن عجائب المخلوقات، عن غرائب الفلك، عن المادّة والرّوح، عن الحبّ واللذّة، عن الخبز الذي تقدّمه كلّ صباح تلك اليد الكريمة، يد الشمس. لكن، لكن، اعذرني. لا أستطيع أن أتحدّث معك عمّا تطلبه، وبالأخصّ ذلك الذي تسمّيه «المستقبل العربيّ». 2 «لا شيء يبقى كما كان سابقاً»: قيل ويُقال. وليس الفرق بين الشكل الراهن لهذا الشيء، وشكله السابق إلاّ فرقاً في «القناع». هل في ذلك ما يتيح الذهاب بعيداً في سلطة التسمية؟ 3 زمنٌ بلا مكان، مكانٌ بلا زمن: يتجسّد ذلك، تراجيديّاً، على مسرح الهواء الطّلق الذي يُسَمّى فلسطين. المسرح نفسه دولتان (أو أكثر)، جيشان (أو أكثر) رايتان (أو أكثر)، في بيتٍ صغير واحد! 4 التبسيط؟ إنه تعقيدٌ آخر. كان يُقال: «العرب أمّةٌ واحدة»، أو «بيروت مدينةٌ واحدة». بيروت، مثلاً: يكفي أن «نتصفّحها» لنرى أنّها كتابٌ لا تُشبِهُ فيه صفحةٌ أختَها. بيروت، ببساطة، «مدنٌ كثيرة». وماذا يُقال، إذاً عن المثل الأوّل؟ 5 ماذا يحدث للعالم ولغاته لو أنّ الأشياء تكلّمت هي نفسها؟ لو أنّ الشمس، مثلاً، هي التي تخاطب النّاس وتوجّههم، وتجلس على كرسيّ الحكم؟ لو أنّ صنّين أو قاسيون هو نفسه الذي ينتخب النوّاب والسياسيين والقادة؟ لو أنّ الوردة، مثلاً آخر، هي نفسها تختار اليد التي تقطعها؟ 6 للتاريخ العربيّ أرقٌ لا يُفارقُ عينيّ. 7 أيّتها الخريطة العربيّة، ما أنت؟ وإلى أين؟ II. هواجس 1 الرّغبةُ نوعٌ خفيٌّ من الهجرة. 2 ألا يكونُ «الظلُّ»، أحياناً، نوعاً من المحْو، أو نوعاً من الرّغبة في الامّحاء؟ 3 الثّورةُ وإن كانت تِرْياقاً، تظلُّ اسْماً آخرَ لسُمٍّ آخر. 4 بلطْفٍ من الفَضاء تترحّلُ الرّيح عاريةً، وتعود إلى بيتها حافيةَ القدمين. 5 لا يجيئُه الليل إلاّ في عَرَبة تجرُّها أحلامُ اليقظة. 6 هل وجهُكَ في المرآة هو وجهُك، حقّاً؟ وما يكون إذاً، «معنى» المرآة؟ III. تساؤلات جماليّة 1 إلى أين وصلت فكرة «الجمال» اليوم في ثقافةٍ تكادُ أن تصيرَ مجرَّدَ صحافة؟ سابقاً، كان الجمالُ يساعدُنا على الانفصال عن الواقع البشع. اليوم هو ما يجعلنا أكثرَ تلاؤماً معه. كان العلمُ شكلاً من أشكال الفنّ، واليوم صار الفنّ شكلاً من أشكال العلم: المهمُّ فيه، كمثل العلم، فائدتُه العمليّة. سابقاً كنّا نريد أن نغيّر الواقعَ بالفنّ. اليوم نغيّر الفنّ لكي يتلاءم مع الواقع. كان الفنّ انشقاقاً عن الواقع، واليوم أصبح التصاقاً. وقد تعلّمنا أنّ الفنّان الذي «يبتكر» الجمال، أو يجدِّد فكرته هو من يمتلك الموهبةَ أو العبقريّة للتعبير عن رموزٍ بتشكيلِ مادّةٍ تُدرَكُ على نحْوٍ مباشر. ويكون هذا التشكيلُ مؤثِّراً. ومن التأثُّر بهذا التشكيل تنبثق فكرةُ الجمال. لكنّ مثل هذا «الجمال»، لم يعُد له أيُّ مكانٍ في الفنّ المعاصِر. فما «يشكّله» هذا الفنّ أو «يقدِّمه» منفصلٌ كلّيّاً عن «الجمال القديم»: لم تَعُد له أيّةُ علاقةٍ بأيّة رؤيةٍ فريدةٍ وعظيمةٍ للعالم أو الكون، سواء كان إنسانيّاً أو إلهيّاً. 2 ألِهذا تجد فكرةُ «الجمال» نفسَها أمامَ مُفتَرَق: إذا نظرنا إلى العمل الفنّيّ، أيّاً كان، بعين «القطيعة» مع الماضي، فهو «جميل»، إجمالاً عند المعنيين المعاصرين، وإذا نظرنا إليه بعين «الوحدة» مع الماضي، فهو عندهم موضعُ تساؤلٍ، وإعادة نظر، على الأقلّ، وموضوعُ استغرابٍ ورَفْضٍ غالباً. 3 يبقى السؤالُ قائماً: هل الجمالُ في «المنظور» (لوحةً، أو منحوتةً)، أم هو في «النّظر» وطرائقه؟ هل هو في «المسموع» (موسيقى، أو غناءً)، أم هو في «السمع» وطرائقه؟ هل هو في «المقروء» (قصيدةً، أو رواية)، أم هو في «القراءة» وطرائقها؟ كذلك يبقى السؤال قائماً حول «ماهية» الجمال ذاته: هل الجمالُ «معنى» مسبّقٌ ثابتٌ، أم هو على العكس، حركةٌ وتحوّلٌ؟ هل هو «وصْلٌ» أم «قطْع»؟ هل هو «اتِّباعٌ» أم هو «إبداع»؟ IV. شرارات 1 غائبٌ، غير أنّه لا يتوقّف عن الكلام. حاضرٌ، غير أنّه لا يُصغي. 2 أجسامٌ بلا رؤوس، أشلاءُ متعانقة: ذلك هو «أبرز» تجهيزٍ فنّيّ معاصر، في السّاحة الكونيّة المُعاصرة. 3 ينتقد الكاتبَ «العاليَ» الذي يرفض «النزول» إلى مستوى النّاس: ما المستوى الذي يقف فيه هذا «الناقدُ» نفسُه؟ 4 جسمها مرآةٌ له، يتمرأى فيها ليلاً، جسمُه مرآةٌ لها، تتمرأى فيها صباحاً 5 كلُّ صعودٍ، اليومَ، مُنكَرٌ إلاّ بشرطٍ واحد: أن يحملَ الصّاعِدُ على كتفيه، جبلاً من القَتْلى. 6 لماذا تظلّ الحاجةُ ماسّةً ومُلِحَّةً إلى ولائم المعدة؟ أقصد المعدَةَ الحربيَّةَ الخاصّةَ بهذا الكائن الشَّرِه الشّرس الذي لا يشبع، والذي يُسَمّى التّاريخ؟ وها هي الثّقافة التي تعمِّمها هذه المعدةُ وولائمُها: مدائحُ لتحسينِ شؤون «الخبّازين»، بخاصّةٍ، وخطَبٌ لرفْع مكافآت «الطبّاخين»، على نحْوٍ أخصّ. 7 «لوحة غامضة»، يقول زائرُ المعرض. ثمّ يتابع: مثلاً كيف نميّز بين الرّمل والغزالة؟ «لوحة غامضة» يكرّر. 8 - لا عنقَ لذلك الرّأس الذي ينهض بين كتِفَي تلك المرأة. - تأكّد. هل تنظر إلى الرّأس أم إلى الفَأْس؟ 9 الحياة عند بعضهم، كمثل ملحٍ يثق أنّه لؤلؤٌ لسببٍ واحد: هو أنّهما يتشابهان في اللون. 10 هل ستصدّق المرأة، يوماً، أنّها، عندما تدخل في سرير نومها، تقدر أن تحوِّل البحرَ إلى سفينة، والسفينة إلى مرفأ؟