تحاول تغريد إبراهيم الطاسان من خلال تخصصها في علم الاجتماع، وعبر تجربتها الطويلة في الشأن الاجتماعي والثقافي، أن تمسك بيدنا وتسافر بنا لكون السعادة من خلال إصدارها الثالث المطبوع «فلسفة سعادة». وفيه تزاوج بين المقال الطويل والخاطرة الصغيرة، ليجتمعا في معين واحد هو نهر السعادة ومضمار المشي بين جنباتها وضفافها. «الحياة» حاورت الطاسان عن محطات وعناوين عدة في حياتها الأدبية وأطروحاتها حول الفلسفة، والسعادة التي تشغل حيزاً كبيراً من تفكيرها وكتاباتها، التي توشك أن تترجم إلى لغات عدة، فكان كالآتي: هل تحتاج السعادةُ إلى فلسفةٍ كي نعيشها؟ - أُسس العلوم كلها الفلسفة، كل المعارف في حياتنا وعبر التاريخ، كانت فلسفات وخروجاً عن المألوف. فالخلق الأوّل في أساسِه كان تقديراً إلهياً محكماً، كتبت فيه السعادة لآدم، ما دام ملتزماً بالأسس التي صيغت له من رب مدبّر حكيم. حتى في قصة حواء معه، كانت فلسفتها المكتوبة في اللوح المحفوظ بحثاً عن سعادة أبدية تامة. ولذلك جاءت الأحداث تتالياً كلها في تفاصيلها بحثاً عن سعادة، المشكلات تقع في حياتنا فتنتقص من سعادتنا، الحلول التي ننشدها لاستعادة هذه السعادة. والفلسفة التي أحاول إعادة بثها عبر كتاباتي ولقاءاتي كلها إعادة تدوير لمبادئ كانت وما زالت مرتكزاً للحياة التي نود عيشها ونرجوها ونأملها. فما نعانيه حالياً هو عدم العودة إلى جذر العلم الأول لأساس الحياة الأولى «الفلسفة»، وهي في بعض منها خروج عن نصّ الرتابة والروتين، وتفكير خارج صندوق المتع الزائلة، والسعادة التي نمارسها تنتهي بمجرد زوال وقتها، وكأننا نعيش السعادة واجباً وقتياً مفروضاً علينا بأدوات محددة. ونقول إننا سعداء لأننا نمتلك مالاً أو داراً، أو حتى نقضي رحلة في ربوع الألب، أو سواحل الباهاماز. ولكنني أنظر إلى البسطاء وضنك الحياة وعسرها الذي ينهك أكتافهم، فلماذا يبتسمون، لماذا تغمرهم ضحكة عميقة تصل حد القهقهة؟! والجواب يسير، لأنه عاش سعادة حقيقية في داخله، كفته وأغنته عن العيش في فلك الضنى والعنى الوقتي الذي يمرّ به. فلسفة السعادة ليست مبتكراً جديداً ولا مخترعاً حديثاً، ولا معادلة لآينشتاين، هي ببساطة عودة إلى الأصول الصادقة في أعماقنا، إنها إعادة اكتشاف، إعادة حرث وبذر وسقي وتعهد وعناية وأمل ورجاء في ثمر ناضج يانع. وهذه هي الفلسفة التي أنشد. والحياة تبعث من جديد كل يوم، كل إشراق، وحتى كل بزوغ لقمر، فالحياة تولد مع صوت كل ميلاد لطفل، ومع كل فصل، وكل هبة نسيم وكل زخة مطر. وكل هذه البساطات المتكررة في حياتنا فلسفة للسعادة التي ننشدها وأكتبها وأحكيها وسأظل أرويها. سر السعادة ما الذي يتحكم في منسوب السعادة عندنا؟ - التفاصيل الصغيرة، التافهة أحياناً في نظر بعضهم، ربما ضحكة طفل، أو رد فعل بريء من محب، تربيته كتف في وقت شدة - ستزول وإن طالت -. وكل هذه التفاصيل التي لا ننتبه لها قد تشعل قناديل السعادة والفرح. ولسنا مضطرين إلى العناوين الكبيرة دوماً، فبعض الصدف والمقادير غير المخطّط لها قد تبدّل حياتنا نحو سعادة بلا حدود. ومنسوب السعادة بيننا محكوم بالكلاسيكيات والنمطيات الثابتة الرصينة، ونرهق أنفسنا باتباعها كأنها قوانين جزاؤها العقاب، وليس فيها أجر ولا ثواب. والمعيار الفلسفي هنا في السعادة استمرارية قدرتنا على الابتسامة، ولو كانت صفراء ساخرة، لكنها ربما ترضينا تهكمناً على وضع مرفوض أو واقع خاطئ، أو تلك القدرة العجيبة فينا أن نبتسم، على رغم الوجع، وعلى رغم البعد، وعلى رغم الفراق، وعلى رغم الانهزام أو الانكسار أحياناً، فالابتسامة هي المعيار الثابت بين الغني والفقير والقوي والضعيف، وهي فعلاً منسوب قابل للقياس في معايير فلسفة السعادة. كيف لنا أن نجد السعادة في كتاب؟ - قبل ثورة لوحة المفاتيح وشاشات العرض، لم يكن بين أيدينا سوى الورق والأقلام. وكان الكاتب ينشر الضحك في صورة أسطر مكتوبة. وكان العاشق المحب يبعث رسائله الشاعرية مكتوبة وكان الحزين يشكو في ورقه. والكتاب عنوان قدرتك على شراء الفرح، وهو سوق الحياة مليء بسلع الأحاسيس، الفارغ منها والفاخر، الكتاب هو المضمون الذي تجدنا نقلب طياته وصفحاته بحثاً عن سعادة مفقودة، في بيت شعر تحسه، في مشهد تصوره التعابير فتعيشه، في استفزاز لمخزون من سعادة اجتزتها عابراً من دون أن تلتفت بسبب مشاغل الحياة وروتينها. الكتاب رشفة فرح تنتقيها، تريد أن تنسى هماً فتحتار رواية تحمد الله أنك لست البطل فيها، تريد أن تعيد بث الأمل من جديد، تختار سيرة مليئة بالتحديد والإصرار، تفتش عن الحكمة - وهي ضالة المؤمن - تفتح دفتي كتاب عن روائع كونفوشيوس، أو باولو كويلهو، أو نجيب محفوظ، أو أدبيات طاهر زمخشري. ومن دون حصر أو تخصيص، في الكتاب حتماً ستجد ما يروي عطشك لسعادة ما أمطرتها تلك الصفحات. باختصار، انظر لخاتمة ما قرأت واسترجع ذلك الشهيق العميق بعد الختام والابتسامة التي تعلو محياك بعد غلق الدفة الأخيرة لكتاب. هناك حتماً ما يخفيه المرء من سعادة تلدها الكتب مهما تطاولت عليها لوحات حروف الأجهزة الذكية. الفرق بين الكتاب الأول والثاني ما الفرق بين تجربة الكتاب الأول والثاني؟ - اشتركا في حب التكوين الحرفي والاهتمام برعايته جنيناً ثم وليداً. واختلفا في حجم الثقة بالنفس والخبرة الطرح والخروج عن صندوقنا الدائم النمطي الروتيني. وربما أجد في جنى الكتاب الأول التهاني به والتبريكات، لكن في الكتاب الثاني هناك مشروع ورسالة واجبة الإيصال. وفي الأول بعثت برسالة علها تصل من كتبت له أو لها. أما في الثاني فأنا ساعي البريد الذي حمل على عاتقه أن يوصل رسائل الحياة والسعادة لمجتمع كامل، وليس له وحده أو لها فقط. ما الجديد الذي حمله كتابك الثاني؟ - فلسفة سعادة احتفظ بجينات تغاريد فيما يتعلق بجزئية الخاطرة القصيرة التي حفظت مركّز الفكرة، وتركت للقارئ حرية تشكيل رؤيته الشخصية وإعدادها بما يتناسب مع ظروفه هو. وفي الوقت نفسه طرأت طفرة – أرجو أن تكون جميلة – في قسمات وتفاصيل الخاطرة، فيما يتعلق الخاطرة لتكون مقالاً أو بعضاً من رواية أتناول فيها بعض القضايا الاجتماعية والمجتمعية بشكل أعمق. ما الفرق في لغة الكتابة بين الكتابين؟ - كل كاتب له بصمته الخاصة، كل منّا له أبجدياته في التعبير ورسم المشهد وتلوين الصورة، أجدني في الكتابين حافظت على نسق العبارة واجتهدت في جزالة الأسلوب، لكنني في الكتاب الثاني كنت أراني أعمق في الفكرة عمّا سبق، ويظل للمتلقي الكريم استقصاء الفارق ونقدي ولم لا، إهدائي قصوري وعيوبي، أؤمن أننا نستطيع أن نحول القصور إلى قصور. ففي الأولى نرمم عيوبنا وفي الثانية نسكنها بزهو وفرح. كيف ترين حضور الكتاب الورقي في الإعلام الجديد؟ - كل مدونات الكون الإلكتروني، ومحفوظاته التقنية لم ولن تمنع صوت الورق ورائحته العطرة من النفاذ لنا. واكتب ما شئت ودون ما تستطيع، فلن نقرأ شاشة مضيئة ما لم نقلب الصفحات ونضع إشارات التوقف، وربما نكتب سطراً هنا وخربشة هناك. بين كتابة تغريدة وكتابة مقالة، أين تجدين نفسك؟ - يقول طلال حمزة: تغريده واحدة قد تثقب سقف العالم، وسطر واحد قد يبدّل معنى، ومقالة واحدةّ قد تغير مجرى في مجتمع، فلست محكومة بواجب أؤديه، وأجدني كموجة على شاطئ جيئة وذهاباً. وسطران وبضع كلمات أسعى للوصول عبرها إلى القلب والعقل معاً، وصفحة أبثّ فيها كلّ طاقتي – الإيجابيّة بالطبع – وقدراً من حزن اتخلص منه. وفي النهاية أجمعهما عقداً يزين صفحات. الكلمات لا تفي والدي حقه سمعت أن كتابك سيترجم. كيف سيقرأ الغربي فلسفتك؟ - حاضر الإنسانية حزين مبكٍ، حروب، مآس وآلام، فقد وهجرات ورحيل قسري عن الحياة والأوطان. وأريد للآخر أن يقرأ حروفنا الحقيقية عن سعادتنا الصادقة، عن الأمل الذي ننشده بيننا كبشر وننشده كأغاني عن الحب والوفاق. فنحن أمة حرفت كتاباتها نحو العنف، لعلهم يجدون وهم أهل الفلسفة بعضاً من جوهرنا النقي في رحلة لا تنتهي للبحث والعيش في ومع وبالسعادة. «هاشتاغ» فلسفة سعادة اشتهر وانتشر بك. ماذا يشكل لديك هذا الأمر؟ وهل ترين فيه مسؤولية عليك؟ - أسلفت سابقاً أن فلسفة سعادة هو مشروع، كنت أبعث رسالة فيما مضى، في فلسفة سعادة أنا أحمل رسائلي ورسائلكم ورسائلهم وأوصلها. وهذا «الهشتاغ» أنا من بذره، وسأظل أرويه حتى يينع ونقطف جميعاً أحلى ثماره، وننتشي كل عطور زهوره. متى ستكتبين روايتك الأولى. وبخاصة بعد نشر أكثر من قصة لك؟ - تأتي الأشياء من الله في الوقت المناسب، ولا أريد أن أخطط، أريد فقط أن أنوي النية، وسيأتي الله بها عندما يحين وقتها المناسب. وما أظنه ببعيد. أنت ابنة مثقف ومسؤول كبير. ألا ترين أنك مقصرة في حقك تجاهه ثقافياً وإبراز وجهه الثقافي للناس؟ - عندما يصل الحديث عن والدي فهنا لا أجد أبلغ من - رد - إلّا الصمت. فكل فتاة بأبيها معجبة، لكن والدي حقاً لا تفيه الكلمات، هو نديم وطن، ورائد من رعيل التأسيس، وصورة فاخرة لحضارة أمة اسمها «السعودية». كون والسعوديون أوطان فيه، أنا مقصرة فعلاً وبخاصة في إبراز وجهه الثقافي والاجتماعي للناس، فوالدي (يحفظه الله) شخصية ثقافية من طراز أصبح نادراً، من الزمن الجميل هو حقاً من أيقونات المعرفة في زمننا رواياته وذكرياته وسرده القصصي. وسيرته وسيرة الوطن وقادته، كلها بحاجة إلى مجمع كتابي، وليس فقط إلى قلمي، وليتني أستطيع أن أوفيه جزءاً يسيراً مما يستحق. لكني هنا أعد أن أدون كثيراً عنه، وأن أعيد الصياغة في هذا التدوين، لأن الكتابة عن الكبار إعجاز قبل أن تكون إنجازاً.