إنه النسر الأميركي الأصلع الشهير، مع ريش أبيض يكسو معظم رأسه، رمز القوة والعنفوان: شعار الولاياتالمتحدة منذ استقلالها في 1776. هل وقع ذلك النسر العتيق الذي تتميز أراضي الولاياتالمتحدة بأنها مقر له، أسيراً في شبكة الإنترنت التي صنعها بعض «أبنائه»، بفعل اليد الخفيّة ل...»داعش»! والأرجح أن من الأفضل تذكّر شيء أساسي قبل الحديث عن الصراع المفترض بين النسر الأميركي وتنظيم «ساعة الرولكس» في يد أبو بكر البغدادي، وهو أن ذلك الصراع ليس متكافئاً. ربما هنالك من يرفض تصديق وجود صراع أصلاً، معتبراً أن «داعش» جزء من أدوات العمل الأميركيّة في المنطقة. ربما تتيح عقلية المؤامرة الواسعة الانتشار في العالم العربي، تصديق تلك الفكرة على نطاق واسع أو ضيّق. لكن، لننس المؤامرة ولو برهة. لنصدق ولو لثانية أن هناك صراعاً بين «النسر الأميركي» المحلق دوماً في سماوات سورية والعراق، وبين تنظيم «داعش» المتمدّد على أراض شاسعة في البلدين. يصعب الحديث عن ذلك الصراع، حتى لو اقتصر على مجرياته في العوالم الافتراضيّة لشبكة الإنترنت، أن يتجاوز حقيقة التفاوت الهائل في القوى بين الطرفين، إلى حدّ أن الحديث عن «طرفي صراع» هو أقرب إلى المجاز منه إلى الوصف. ويطلق خبراء الاستراتيجيا على ذلك الوضع تسمية «الصراع اللامتكافئ» أو «غير المتناظر»؛ اشتقاقاً من كلمة «نظير» وهي تعني الند والمكافئ والمساوي وغيرها. يرث ذلك الصراع مباشرة، سلفه «اللامتكافئ» الذي دار (وربما لا يزال) بين «النسر الأميركي» وتنظيم «القاعدة» المولود في جبال أفغانستان على يد أميركا (!). وكذلك يبدو أنه صراع لم ينته تماماً مع مصرع أسامة بن لادن القائد المؤسّس ل «القاعدة». وفي استعادة، دارت على الإنترنت أيضاً رحى حرب ضروس بين أميركا و»القاعدة»، مالت الكفة فيها تدريجيّاً صوب «النسر الأميركي»، لكنها أيضاً لم تنته...ليس بعد! شبح «وكالة الأمن القومي» لنبدأ من نقطة ليست بعيدة في الزمن. قبل أسابيع قليلة، أذاع البيت الأبيض أن سيّد «المكتب البيضاوي» يرجو ويأمل من شركات التقنيات الرقمية الأميركيّة بأن تساهم في المعركة ضد «داعش». عند تأمّل تلك الكلمات، ألا ينفتح المجال أمام تخيّل صورة سورياليّة تكون فيها الإنترنت شبكة عالق فيها «النسر الأميركي»، فيما تمسك «داعش» بالخيوط المشدودة حول ذلك الصيد الثمين؟ في المقابل، يصعب عدم التفكير أيضاً في شيء أقل سورياليّة وأكثر واقعيّة بما لايقاس، هو: «وكالة الأمن القومي» National Security Agency الأميركيّة. ومع تذكّر تلك الوكالة، يبدو خبر «رجاء» أوباما من شركات التقنيّة الرقميّة في بلاده (وهي الشركات التي تمسك بزمام ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة عالميّاً)، أن تعينه في الحرب الإلكترونيّة على «داعش»، ناقصاً أشياء كثيرة، كأنه لوحة «بازل» سقطت منها قطع أكثر من أن تحصى! كيف يصل الأمر بسيد الأبيض أن يرجو عون تلك الشركات في الحرب الافتراضيّة ضد «داعش»، في ما لم تشف الكرة الأرضيّة برمتها بعد من الآثار الزلزاليّة التي فجرّها خبير المعلوماتيّة إدوارد سنودن، عندما قدّم معطيات عن التجسّس الإلكتروني الشامل الذي تمارسه «وكالة الأمن القومي» على الكوكب بأكمله. ومثلاً، كيف يستعصي خليوي «أبو بكر البغدادي» على الرصد والمتابعة، في ما لا تجد الوكالة صعوبة في التجسّس على «نظيره» في يد المستشارة الألمانيّة أنغيلا ميركل؟ ويفترض أن ميركل تحميها قوة بلادها واستخباراتها وتقدّمها التقني الذي لا يقارن ببلدان عالمثالثيّة متخلّفة كسورية والعراق التي يقيم في نواحيها البغدادي ويتمدّد مع تنظيمه فيها، بل في الخراب والدمار الحاصل فيهما؟ درس من بغداد ما زالت بغداد تتذكّر أشياء كثيرة عن استخدام المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة في الحروب الحديثة. ربما ينتسب إليها اسماً زعيم «الخلافة الإلكترونيّة» Cyber Caliphate (وهو اللقب الذي يحلو للصحافة الغربيّة أن تطلقه على نشاط «داعش» الشبكي)، لكن ذاكرتها القريبة محملّة بمشهديات الحرب الإلكرونيّة المعاصرة. ليس بعيداً من الذاكرة أن الجيش الأميركي مهّد لغزو العراق بضربة إلكترونيّة لم تستغرق سوى يومين، لكنها تكفّلت بشل القدرات الاتصاليّة للجيش العراقي على امتداد أرض العراق وأجوائه ومياهه! إذ عطّلت نظُم الاتصالات كافة، من التليفون إلى الانترنت الذي كان محدوداً ومقتصراً على استخدامات عسكريّة وحزبيّة وأمنيّة، ومروراً بنُظُم الرادار والراديو والتلفزة والهواتف وغيرها. إذن، هناك «شيء ما» ناقص في حرب أوباما الإلكترونيّة ضد «داعش»، إذ لا شيء من تلك الضربة الإلكترونيّة التي أطاحت صدام حسين، ولا حتى ما يشبهها بصورة تقريبيّة، في الحرب التي يخوضها «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، ضد تنظيم «داعش». لماذا؟ ثمة تفسيرات متنوّعة لذلك الغياب الصارخ، لكنها لا تكفي لتغطية كونه غياباً مدويّاً. هناك رأي يقول إن وجود المواقع الشبكيّة التي يديرها «داعش» والمتعاطفون معه، يسهّل رصد تحرّكات التنظيم وقادته وكوادره والشباب المتعاطف معه (خصوصاً في الغرب). يبدو الأمر منطقيّاً، لكن لا مؤشّرات على الأرض تؤكّد حصول الفائدة من «ترك» ذلك التنظيم متمدّداً في الفضاء الافتراضي للإنترنت. وتبرهن الحوادث التي تلت هجمات مسرح «باتكلان» في باريس، أن الإنترنت أبعد ما تكون عن صورة «الكمين» أو «الفخ» للشباب المتعاطف مع «داعش» و»القاعدة» في الغرب. وينطبق وصف مماثل على جمهور واسع من الأفراد المتعاطفين مع «داعش». ثمة تبرير آخر، يرى أن لا جدوى من ضرب المواقع الشبكيّة لذلك التنظيم الإرهابي، لأنه لا يعتمد تكتيكات عسكريّة نظاميّة. وبقول آخر، إذا كان شلّ اتّصالات جيش الديكتاتور السابق صدام حسين، ساهم في جعل ذلك الجيش أشبه بجسد مشلول، فإن غياب التنظيم النسقي والهرمي عن تركيبة «داعش»، يجعل محاولة ضرب شبكة اتّصالاته تشبه محاولة شق الهواء بسيف أو الضرب بالعصي على صفحة الماء!