بين قصائد رولا الحسين ولوحاتها التشكيلية مسافات قصيرة. فكلها آت من مزاج واحد. موقف وجودي حاد وقاس، رغم مغازلته العبث أحياناً. هذا ليس سراً أو اجتهاداً بالنسبة لمن يعرفون كتابات الحسين أو مقارباتها اللونية والمشهدية وكيف تقطّع اللوحة مثلاً في عناصر أو مقتطفات قد لا يبدو هناك أي علاقة في ما بينها للوهلة الأولى. استدراج التقنية التشكيلية إلى الورقة، أسلوب عملت عليه منذ مجموعتها الشعرية الأولى «اترك ورقة باسمك وعنوانك ولونك المفضل» (إصدار خاص، 2005). يومها، سعت الى أن تقدم قصيدة تجاهر بخلفية الشاعرة كفنانة، وتقنيتها اللونية ومعالجاتها البصرية بالريشة، كما لو أن المفردات في القصيدة ما هي إلا نقاط لونية أو ضربات في طيف لوني واسع. ومن ثم أتبعت ذلك بمجموعتها «أتحرك فقط ليكنسوا الغبار تحتي» (الغاوون، 2009). في ذلك كله، حافظت على قصيدة بصرية، متقشفة، كأسلوبها التعبيري شفوياً. كما لو أنها تقول لك «حسناً، هل قرأت قصيدتي؟ كلها؟ قرأتَها كلها، أليس كذلك؟ ما زال هنالك سر وراءها» (ستقول رولا الحسين ذلك بكلام أقل). في مجموعتها الشعرية الصادرة حديثاً «نحن الذين نخاف أيام الآحاد» (دار الجديد)، نحن مجدداً في أتون عالمها الصغير جغرافياً، المصوّر البسيط وغير المتكلف أو المفخّم. إنها القصيدة التي تلتصق بالتفاصيل والحوادث، حد سلخها واستئصالها من سياقها الحياتي أو مرجعها الأول، ومن ثم توظيفها كما هي، فجة ونيئة، في متن شعري مواز، وقريب جداً من الحياة التي نعرفها. كما لو أننا أيضاً يمكن أن نكون في أية لحظة في نسيج هذه القصيدة أو تلك. وإذا كان الشعر يمثل تجسيداً لسلطة جمالية ما، فإنه في قصائد رولا الحسين، يصبح نموذجاً لسلطة الذات، ذات الشاعرة، على الشعر. لا بمعناها الفلسفي أو المجرّد أو المفخّم أو المنتفخ بالأنا. بل بمفهومها المادي الصرف كلحم ودم وملامح. لكنها ذات تبدو لوهلة كما لو أنها بلا أرشيف، بلا ذكريات أو ليس لها زمن سابق. «من أقفل الباب؟ من أطفأ النور؟/ من قرع تلك الأجراس؟/ من خلع كل أسناني دفعة واحدة؟/ من أغرق المكان بالمياه؟/ من فتح أنبوبة الغاز؟/ من عراني؟/ من أفلت خلية النحل هنا؟/ من علق كل تلك الساعات على الجدران؟ من سرق الريموت كونترول؟». إنه الشعر الآتي من طقوس المنزل. من الكنبة والريموت كونترول، السجادة والحنفية وأنبوبة الغاز وساعة الحائط والتلفاز والبراد والأوراق الملصقة فوقه ومربياته وخضاره وأجبانه والكنبة، وفرشاة الأسنان والمنشفة. لكن أيضاً، من علاقة الشاعرة بجسدها، واحتياجاته المادية والعاطفية والجنسية، وهواجسه الخافتة والسرية، من الانتباه إلى الأظافر والاعتناء بالقميص والتنورة والأسنان وواجب «تنظيم» الجسد أو ترتيبه، وكيفية فعل ذلك أو لماذا مثلاً. وصولاً إلى الكارتونز ولاعبي كرة القدم الرجال/ الصبيان ونشاطهم الإنساني العادي الذي يمكن أن يتحوّل إلى مقطع شعري، ذاتي، موصول بقطب إروسية، تكسر فيه الشاعرة أولاً الانطباعات التقليدية التي يمكن أن يبثها مشهد كذلك، وتستبطن ثانياً الشعري والخفي الكامن في العاديات. كأن القصيدة، ببساطتها وغرابتها، هذيان مُعالَج، بنبرة وموقف محددين مسبقاً، «سأكون هنا/ مع الضفادع في الرأس أيضاً/ والبثور نفسها على الوجه نفسه/ سأكون هنا/ أكلم أشخاصاً وهميين جدداً/ ابتكرتهم بنوبات هلع متفاوتة/ سأكون هنا/ أحدق في بحر نافذتي البيضاء/ وأبكي عدم امتلاكه». أما عناصر البيت «الأليفة»، والحديقة والملعب والضيعة، والتي تمثّل مواد الحسين الشعرية، فإن ما يكفل دلالتها هو أنها مواد «محايدة» بطبيعتها. وحين تتجاور بصمتها، وصوت الشاعرة المباشر في القصائد، الصاخب نفسياً والمترفع عاطفياً، فإن ذلك يعكس فارقاً شعرياً ويضخم إحساسنا بوحدة الشاعرة، والمسافة الضخمة بين كينونتها التي أصبحت فجأة معزولة، وبيئتها. «أنا شاعرة صغيرة/ أشعر بأشياء صغيرة جداً/ كظل نملة على الأرض/ وصوت طرطقة الصحون في المغسلة/ كساقي عصفور على سلك كهربائي/ وبرودة البلاط تحت قدمي». ربما لم تعمد الشاعرة أن يكون كتابها سياسياً، غير أن قصائدها تلسع النظم الحياتية والذكورية والسياسية التي تنظم علاقة القوة بين الرجل والمرأة دائماً لمصلحة الأول، وترسم حدود العلاقة بينهما بل وتشترط كيفيات إبرازها إلى الواجهة اجتماعياً. فالشاعرة تشدد على هويتها كأنثى. إنها كينونتها الأولى. ومن هذه الحقيقة «الفجة» و «غير المهذبة» مجازياً، تتأسس العلاقة الشعرية مع الذات، أو مع الرجل/ الذكر. ودوماً في نبرة ساخطة وخافتة وإروسية ودون توقعات كبيرة. غير أن مرآة هذه الحقيقة مصوبة إلى الخارج، لا الداخل. وهي الكينونة التي ترِثُها القصيدة أيضاً. «اقفز هرباً من الشرفة إن أردت/ اكسر ساقك/ أو الساقين معاً/ وابق عندي حتى تشفى/ لكن لا تذهب/ على الأقل هذه الليلة».