تتوالى نصوص «منزل الأخت الصغرى» (دار الكوكب - رياض الريس 2010) للشاعر ناظم السيد، في هيئة قصيدة طويلة، أو كتاب شعري، فنرى التنوع داخل الوحدة. يقتحم الشاعر خارج الشيء وداخله في آن، في مسعى لافت لإعادة إنتاج الواقع، وفقاً إلى رؤية وتكنيك جديدين. يحتفي هذا الشعر بما تراه العين وتلمسه اليدان ويرتطم بالحواس كلها. ويرتاد أصقاعاً شعرية، تبدو كما لو أنه لم يطأها شاعر قبله، من خلال المقدرة على إنتاج مفارقته الخاصة، واختلافه، شكلاً ومعنى، «عشت بفكرة واحدة/ قليلاً ومشوشاً/ كعشبة رأت نفسها في عين بقرة». في هذا الكتاب نواجه نصوصاً تتمرد صراحة على شعريات استهلكت وابتذلها الشعراء، انطلاقاً من رغبة صميمة في تأسيس جديد وترسيخه. وعلى رغم قصر النصوص، إلا أن عالم الكتاب، يبدو رحباً، حيوياً وثرياً. يجمع بين الشعر والنثر والتأملات التي تبدو على قدر من الفرادة والطرافة أيضاً، وتجمع في آن بين الفكاهة والمأسوي، البساطة والمتانة، وفق تصور شعري ينقل الأشياء من مواقعها إلى أخرى جديدة، تجعلها في مغايرة مستمرة، مع ما كانت عليه في لحظة سابقة. عالم «منزل الأخت الصغرى» رحب وواسع مثل تلك الروايات القديمة التي يحبها الشاعر، لا لشيء سوى أنه يحس بأن العالم فيها كان واسعاً. هناك يستطيع أن يتنفس هواء نادراً وأن يمشي أياماً، حتى ليكتشف، بسبب البيوت المتباعدة، أنه أضاع الطريق. يوجد ألم ووحدة وكآبة في هذا الكتاب، وحضور كل ذلك يأتي حقيقياً وطريفاً. يوجد أيضاً ما يمكن التأكد منه والتأكيد عليه، أي ذلك التصور الشعري، الذي يسبق الكتابة، لكنها تظهر كما لو أنها تحفر مجرى لها من دون تدخل منه، مع أنه يدير كل ذلك بوعي وشفافية عالية. لا يزخرف ناظم آلامه بلغة أضحت عبئاً على الشعرية الجديدة، «ما حجتي إلى الزخرفة أمام هذا الألم» يقول في إحدى القصائد. حياته عندما تحدث قربه، يعجز عن وشوشتها ثم يرافقها إلى الباب ويعود إلى الكنبة، ينمو مع أشياء كثيرة وصلبة. كما أنه تخلى عن أحلام كثيرة واستعمل وعوده كلها، مع أنه لم يفعل شيئاً في حياته سوى هذه الأحلام. في نص آخر نصادف الحاجة إلى مبالغات كثيرة، «ليقطع هذا الليل والنهار، ليطرد حاله من مشاعر، كما تطرد مرآة السيارة الجانبية طريقاً وراءها». أو نلتقي به في نص ثانٍ، في هيئة شخص مهجور، يرى حشداً فلا يتردد أن يرمي نفسه عليه، هناك حيث يكون منسياً، حتى من نفسه، موزعاً كأصابع اليد على البيانو. في نصوصه لا يحفل ناظم السيد سوى بالذروة، التي تختصر النص بكامله، إذ تأتي متواترة وكثيفة ومشحونة بالمعنى واللامعنى في آن. كتابة تقوم على الحذف، حذف الخلفية، التخلص من كثير من التفاصيل. هذا الكتاب يبدو مفارقاً لتجربتيه السابقتين، «العين الأخيرة» و «أرض معزولة بالنوم»، وفي الوقت نفسه يشكل معهما تجربة مميزة، تأتي محملة بهموم الكتابة. يظهر هذا الديوان تقطيراً لتجاربه الآنفة، وتكثيفاً لها على صعيد التكنيك الشعري ورؤية الواقع، إذ كتب بحساسية فائقة. «هذا الليل مثقل بأحلام الناس» يقول في أحد نصوصه «بطلباتهم الكثيرة أثناء النوم/ لكن قلبه طيب/ بعكس النهار/ الذي كلما طلبوا منه شيئاً/ يدير ظهره/ متذرعاً بالحقيقة». وفي لقطة أخرى نقع على قصيدة تشرح النهار عبر الضوء «بإغماضة عين استدعي الليل/ ذلك أن الضوء ليس صريحاً». «الضوء ليس عنده ما يخفيه، إنه حيوان الكواكب. الضوء الثرثار لم يقل مرة نفسه، ولم يقل سوى الآخرين». نصوص تستمد كينونتها من عيشها في تحول مستمر، وبالتالي تعبر كتابة ناظم عن متحول شعري، لا يتعب من ممارسة تحوله. ويظهر في هذه النصوص، بصفته شاعر اللحظة الشعرية الجديدة بامتياز، في ما تعنيه من إرهاف لعنصر الزمن، والامتثال لسطوته، وأخذها في الاعتبار. لا يخلو كتاب السيد من حس سوريالي أحياناً، حين يبحث الشاعر عن صوته، فيجده ما زال نائماً، غارقاً في الحلم نفسه، يراه مبللاً بالعرق لاهثاً باتجاه الواقع. تركيب النص لديه، حتى حينما يذهب لاستعمال تقنية التكرار، التي ابتذلها الشعراء كثيراً، فهو يقدم جديداً فيها. يتفجر كل ما هو شعري في هذا الإصدار، ليس فقط من التراكيب وعلاقات النصوص ببعضها بعضاً، أو من اللغة والصور الطريفة، يتفجر حتى من البياض، الذي يتوزع مساحات لافتة للنظر. لعله الكتاب، الذي ينم عن تجربة مختلفة، وقدرة على تحويل كل شيء تقع عليه العين أو تسمعه الأذن إلى شعر، وحيث يكون الهجران أكثر من يخلص، ويتحول المستقبل إلى صاحب قديم، تصطدم به الذات صدفة، وتجد فيه متعة في الانحراف عن الحظ. وبقدر ما تبدو هذه النصوص حريصة على صوغ علاقة مع القارئ، حين يظهر الشاعر وكأنه يتنازل عن الغموض والسرية، في تبسيط مخاتل للأشياء، فإنه في المقابل يظهر كمن لا يمكنه التفريط بعمق نصه ومتانته، أي ما ينطوي عليه من سر وغموض خاصين بالشاعر وحده. إذاً يصوغ ناظم وعياً مغايراً للعالم، وعياً يقذف بالذات في تيه ملتبس، ذات عارية سوى من نظرتها التي تسقطها على الأشياء، فتمنحها معنى. يطور ناظم السيد مفهوماً للكتابة بعيداً من أي ادعاء نظري. ويواصل تجربة تحتفي بالشيء وأثره، وباختلافها وائتلافها، وبقدر ما يبدو كل شيء في الكتاب مفكراً فيه، يعاينه بوعي وقصدية، بقدر ما يظهر وكأنه خلاصة للعفوي والتلقائي.