رواية الكونت دي مونتي كريستو للكاتب ألكسندر دوما الأب، التي تعد من أكثر الروايات شعبية في العالم وقد اقتبست مرات كثيرة للسينما والمسرح والشاشة الصغيرة، تعود الى المسرح في باريس ولكن بصورة مختلفة تماماً. العرض الجديد من إخراج ريشار أرسلين ويقدم حالياً على خشبة مسرح «إيسايون» الذي يقع في الدائرة الرابعة قرب حي «شاتليه» وتديره اللبنانية ماري جوزيه تيان. ولا بد من الإشارة إلى أن المسرح يقع في بناء تاريخي يرجع الى القرون الوسطى ويتألف من قبو تستعيد عمارته أجواء العمارة القوطية، ويضم اليوم قاعتين تقدَّم فيهما في شكل دائم عروض غنائية ومسرحيات مستوحاة من النصوص الكلاسيكية. تقتضي الملاحظة أن الرواية تحكي قصة البحار إدمون دانتيس الذي كان في الثامنة عشرة من عمره عند بداية الرواية والذي راح ضحية مؤامرة أعدها أصدقاؤه بسبب الحسد والغيرة، فحكم عليه بالسجن مدى الحياة وأودع سجن قلعة إيف قرب مدينة مرسيليا الجنوبية. في السجن، أصبح صديقاً لسجين آخر هو الأب فاريا الذي كان مثقفاً ويكبره سناً، فعامله كابنه وثقفه في مجالات مختلفة ومنها السياسة والاجتماع والفلسفة. وكان الأب فاريا يخطط منذ سنوات للهرب، وهو الذي أخبره عن كنز هائل يقع في جزيرة مونتي كريستو، لكنه توفي قبل تنفيذ مخططه. في المقابل، نجح دانتيس في تنفيذ خطة الهروب واستولى على الكنز، ما مكنه من العودة الى الحياة الطبيعية باسم الكونت دو مونتي كريستو، وكان مشروعه الانتقام من أعدائه الذين غدروا به وحرموه الزواج من حبيبته مرسيدس. وبالفعل يتمكن دانتيس من تنفيذ خطته بفضل ثروته ونجاحه في فرض نفسه في المجتمع الباريسي المخملي. ما يميز أولاً عرض «الكونت دي مونتي كريستو» هو النص الجميل الذي أعدته الكاتبة والمخرجة والممثلة فيرونيك بوتوني التي تجسّد، هي أيضاً، أدواراً عدة في المسرحية الى جانب الممثلين فرانك إيتينا ولوكا لومازي. خارج السياق المتعارف عليه حتى الآن، قدمت الكاتبة العمل وفق تصوّر جديد لا يخضع للمقاييس الكلاسيكية. فبدلاً من أن يكون عملاً متسلسلاً وفق الحبكة الكلاسيكية، تحوّل الى مشاهد لا تأخذ في الاعتبار التسلسل الزمني للحكاية. وهذه مقاربة جديدة لعمل مسرحي قُدِّم عشرات المرات على الخشبة وفي لغات مختلفة، كأن الكاتبة أرادت أن تؤكد أن التعامل مع النصّ يمكن أن يكون مبتكراً فتحقق بذلك إضافة نوعية على طريقة قراءته وإعادة صياغته وتقديمه. وهذا ما وصفه بعض النقاد الفرنسيين بال «الإيقاع المجنون»، لكنه إيقاع يُكسب النص الأصلي أبعاداً مستحدثة ويُخضعه لقراءات مفتوحة لا تنتهي. الإخراج المسرحي جاء موازياً لهذا البعد التجريبي، وقد عمل المخرج ريشار أرسلين على الإفادة الى أقصى حد من فضاء المسرح، وتحريك الممثلين، كما اعتمد على إضاءة الخشبة والوجوه التي اعتلتها بمشاعل ساهمت كثيراً في لعبة الضوء والظلال بما يتلاءم مع المنحى الرومانسي للقصة والجانب القوطي للرواية. حرية التعامل مع هذا العمل الكلاسيكي، وجرأة تناوله، جعلتا الصيغة الجديدة ل «مونتي كريستو» عملاً حديثاً لا يتقيَّد بزمان ومكان. واللافت أيضاً أنّ المسرح الذي يعيش في الغرب، وبصورة عامة، صعوبات عدة، يتبدى هنا في حلّة أخرى، إذ غصّت الصالة الصغيرة بالمشاهدين الذين لا تنحصر أعمارهم في فئة من دون الأخرى. وما يفاجئ في هذا الإقبال، أنّ المسرحية لا تخضع لسوق العرض والطلب ولا تنطلق من المعايير التي تضمن مردودها المادي مسبقاً، بل تنتمي إلى الأعمال التجريبية التي ظلت تشهدها العاصمة الفرنسية حتى ثمانينات القرن العشرين.