في إحدى قاعات «تيت بريتان» تعرض لوحتان من فرانسيس بيكون وسرير تريسي أمين معاً. هناك عدد من التخطيطات البائسة التي نفذتها أمين كانت قد علقت على أحد الجدران. تخطيطات لا تكشف عن قوة في التعبير ولا عن مهارة في الحرفة. يبدو الأمر أشبه بمزحة ثقيلة. فبيكون (1909 - 1992) وهو رسام بريطاني من أصول إرلندية لم يكن من الرسامين الذين يستسهلون الرسم. موضوعاته الشخصية الصعبة توحي بقدر هائل من الشقاء والمعاناة والعذاب، قبل الرسم وأثناءه، بل وبعده. الكائنات التي كان بيكون يرسمها وهي كما أتوقع مستوحاة من رواية كافكا «المسخ» لا تغامر في مغادرة عالمها إلا بعد أن تتأكد من أنها قد تماهت مع شكلها الخرافي الذي ترنو إليه. نزعة بيكون إلى الفن الصعب وهبت كل سنتمتر من لوحاته معنى البحث عما هو غامض. ذلك رجل لا يضع فرشاته على سطح اللوحة إلا إذا كانت محملة بالمعنى. جمالياته ليست موجهة من أجل متعة العين السائبة والسلبية. هناك الكثير من الجهد الذي يهب الرسم حقه، كما لو أن الرسام في صدد رسم واحدة من لوحات عصر الباروك. لقد عرض «تيت بريتان» ثلاثيات من رسم بيكون في أماكن أخرى بطريقة تليق به فنياً وتاريخياً. لذلك شعرت بأن تلك القاعة قد اُرتجلت بطريقة يُراد منها الإعلاء من شأن فنانة مشكوك في أمرها. لقد اسُتعمل بيكون بطريقة مبتذلة من أجل أن تمرر الفكرة التي تثبت كفاءة تريسي امين في أن تكون فنانة. هناك قدر عظيم من التضليل. خدعة أن تكون امين فنانة قد تمر على الكثيرين بسبب وجود عملي بيكون. سرير تريسي امين الذي يعود عرضه الأول إلى عام 1999 كان عملاً استفهامياً اعتمد على ما هو جاهز، وهو ما يبرر وجوده في تاريخ الفنون المعاصرة الذي لا يزال محل التباس. لو تركت امين وهي بريطانية من أصل قبرصي تركي من مواليد عام 1963 وحدها في قاعة لاعتبر ذلك بمثابة تصرف حكيم، غير أن إقحام بيكون هو التصرف الطائش الذي يمكن تأويله بطريقة غير بريئة. وهي الطريقة التي صارت المتاحف تمزج من خلالها الرديء بالجيد، التاريخي الأصيل بالعابر الموقت. أبهذه الطريقة صار ممولو المتاحف يفرضون نظرتهم الاستثمارية على المتاحف؟ تلك العلاقة الملفقة بين بيكون وامين إنما تقوم على شيء هو أشبه بسرير، كان بيكون قد رسمه. شيء لم يكن الرسام يقصده لذاته. أما سرير امين فقد كان الموضوع كله. حملت بيكون سريرها بعد ليلة عاصفة بحميميتها إلى قاعة العرض لتشارك به بحثاً عن الفوز بجائزة تيرنر. وهي أرقى الجوائز التشكيلية في بريطانيا. لم تنل الجائزة يومها غير أن سريرها ظل يلح على ذاكرة منسقي المعارض في المتاحف إلى أن اقتناه «تيت غاليري» بمبلغ خرافي. صار ذلك السرير لقية متحفية. المشكلة هنا ليست في السرير، بل في العلاقة بين عمل تجهيزي قرر المتحف أن يكون جزءاً من مقتنياته وبين لوحتين تنتميان إلى تاريخ الرسم في بريطانيا. لن يكون بيكون سعيداً بوجود عمل تريسي امين قريباً من لوحتيه. شعوري بالتعاسة كان عظيماً. منظر القاعة كان مهيناً لبيكون. لقد عرضت لوحتاه كما لو أنهما وجدتا هناك لتزيين غرفة نوم تريسي امين الشخصية. المنظر يوحي بأن امين نفسها كانت قد حملت إلى المتحف غرفة نومها بكل أشيائها وبضمنها لوحتي بيكون. بالنسبة لأجيال غُسلت أدمغتها بفتوحات الفنون المعاصرة سيكون من الصعب تلمس الطريق إلى الحقيقة. ما يقدمه المتحف هو الحقيقة. سواه لن يكون إلا وهما. وهنا بالضبط تقع الكذبة التي يُراد لها أن تكون حقيقة. بطريقة مهنية تسوق المتاحف أكاذيبها. هناك جهة ما كانت قد قررت أن تضع تريسي امين على خريطة الفن، أما المتحف فهو الجهة التي وقع عليها التنفيذ. سيقال «إنها نظرية المؤامرة» ولمَ لا؟ ما يجري في كواليس المشهد الفني ومنذ عقود هو التجسيد الأمثل للمؤامرة. ما من فنان يفرض نفسه اليوم بقوة فنه. تلك فكرة تعود إلى الماضي. البحث عن رعاة وحماة صار هاجس الفنانين في زماننا. من غير منسق فني يتبناك لا يمكنك الوصول إلى القاعات أو المتاحف.