بعيد صلاة البابا فرنسيس، لأجل ضحايا ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية في سورية والعراق» خلال خطابه في عيد الميلاد، أشاد العديد من المفكرين الغربيين بالخطوة التي قام بها رأس الكنيسة لأن صلواته كانت لأجل «الضحايا المسيحيين والمسلمين» الذين سقطوا نتيجة عُنف «الجهاديين»، لكن كلماته تم توظيفها لإظهار ما وصفته بعض الأقلام الغربية بالتناقض الصارخ بين «تواضع الفاتيكان» و «وحشية الخلافة» المُعلنة حديثاً. وفق وجهة نظر بعض الأقلام الغربية المتعاطفة مع الكنيسة الكاثوليكية مؤخراً في ظل تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، فإن على الغرب أن يتخلى قليلاً عن قواعد «التهذيب والعبارات الديبلوماسية»، ويقر بما هو واضح: «الإسلام لا يزال عالقاً في العصور الوسطى»!. وأنه حتى الذين كانوا يعتقدون أن هذا التفسير بدائي للغاية، فإنهم كانوا عالقين في محاولة بائسة لتوضيح السبب الذي جعل الكثير من دول الغرب تصل إلى طريقة لفصل المؤسسة الدينية عن الدولة، في حين أن الدول الإسلامية، لا تزال غير قادرة على ذلك. يرى واحدٌ من أكثر التفسيرات شيوعاً في الغرب أن العالم الإسلامي يحتاج إلى إصلاح ديني من الداخل، أي إلى مارتن لوثر مسلم يأخذ بالإسلام إلى العصر الحديث. حجةٌ ساقها الكثيرون من أمثال توماس فريدمان لأكثر من عقدٍ من الزمان، ويبدو أن العديد من مُحللي الإسلام ومُنتقديه لا يزالون متمسكين بفكرة أنه لا بد من وجود شخصٍ بإمكانه أن يزيل حيرة المسلمين في شأن العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة في بلادهم، ويساعد في انتقال الإسلام من الأصولية الشمولية، إلى دينٍ ليبرالي مستنير، سواءً كان هذا الشخص واعظاً تركياً منعزلاً مثل فتح الله كولن، أو جنرالاً مصرياً مثل السيسي. من المفيد في هذا السياق تذكر التاريخ النقدي التطوري لفصل الدين عن الدولة في الغرب، قبل نقد الرؤية الغربية الجديدة التي تنزع عن المسلمين وصف «الإصلاح» لتصفهم بالعجز عن إمكانية تحقيقه. ألم يكن الإصلاح الديني هجوماً على الكنيسة في جوهره؟ ألم يكتب مارتن لوثر الرجل الذي بدأ هذا الإصلاح كتاباً عنوانه ««ضد البابوية الرومانية: مؤسسة الشيطان»؟ واقع الحال أنه في كل مرة يحاول كاتب غربي أن يعثر على مارتن لوثر بين المسلمين، فإنه يثير تساؤلاً لم يصل أحدٌ إلى إجابته بعد عن المجتمع الغربي نفسه: هل يعني وضعُ العالم المسيحي الآن، انتصاراً للبروتستانتية على البابا؟ أم أنه تعبيرٌ عن الطبيعة العلمانية للديانة المسيحية في البروتستانتية والكاثوليكية على حد السواء؟ كان بديهياً لغالبية البروتستانت الأميركيين أن الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة في معظم التاريخ الأميركي، لم يكن ممكناً إلا بفضل ترويض الإصلاح البروتستانتي لسلطات الفاتيكان في القرن ال 16. كانت الغالبية ترى الكاثوليكية باعتبارها ديناً ينتمي إلى العصور الوسطى، ويتعارض مع التقاليد العلمانية المستقرة في إنكلترا وأميركا. لم يكُن العداء الأميركي تجاه الكنيسة الكاثوليكية بلا مبرر. لم يكن الفاتيكان يمثل بأي حالٍ وجهاً معاصراً للدين في ذلك الوقت، أعلن قادة الكنيسة معارضتهم للقواعد الأساسية للديموقراطية مثل الاقتراع، وأصدر البابا بيوس التاسع منشوراً في عام 1864م يدين الليبرالية، وحرية العقيدة، والتقدمية. لكن معظم المسيحيين البروتستانت الآن سيتفقون على أن البابا فرنسيس يبدو شخصاً لطيفاً، ولا يُمثل تهديداً للديموقراطية بأي حال، إن البابا -هذا البابا بالتحديد- يدعم التقدم، بل حتى يدعم نظرية التطور الآن، فماذا حدث؟ أعطى الإصلاح البروتستانتي أخيراً ملوك أوروبا مثل هنري الثامن، تبريراً دينياً للجمع بين الكنيسة والدولة تحت سلطة واحدة، بدلاً من سلطة الفاتيكان، لقد دعم البروتستانت فصل الكنيسة عن الدولة، فقط إذا كانت هذه الكنيسة هي الكنيسة الكاثوليكية، وحرَّر هنري الثامن نفسه من سيطرة بابا الفاتيكان. لكن لا يبدو أن أحداً في المجتمعات الإسلامية يطالب بظهور «هنري الثامن الإسلامي»، لا يسعنا التهرب من حقيقة أن «هنري» حوَّل إنكلترا إلى مملكة ثيوقراطية، أعلن الملك نفسه أرفع سلطة سياسية ودينية في إنكلترا بذات الطريقة التي قد يتصوَّرها المسلمون لدور الخليفة. يُذكّرنا تطور تاريخ العلمانية في الدول البروتستانتية والكاثوليكية بأن السياسة والظرف التاريخي يُشكّلان الدين وتطبيقه في المجتمع أكثر من أي فقه ديني نظري، تستطيع هذه العوامل إحداث تغيير جذري في أيَّة عقيدة، حتى إذا بقي النص المقدس على حاله لم يُمس، إن ادّعاء أن المسيحية تحمل في جذورها قواعد علمانية أو إنسانية لا يصمد طويلاً أمام تاريخ 250 من الباباوات قرأوا الإنجيل نفسه وخرجوا باستنتاجات مختلفة عن دور الكنيسة في المجتمع. لكن إذا كان فصل المؤسسة الدينية عن الدولة أمراً سياسياً لا فقهياً، فيجب علينا أن نطرح سؤالاً: أي النماذج السابقة في تاريخ الدول الغربية يصلح للعالم الإسلامي؟ هل حقاً التجربة الفرنسية في تحديد العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة هي ما يحتاجه المسلمون وليس التجربة الإنكليزية في عهد هنري الثامن؟ لا يبدو هذا احتمالاً راجحاً، الجواب الحقيقي هو أنه ليس ثمَّة طريق واحد واضح ومثبت تاريخياً للعلمانية الحديثة، لقد كانت الثورة الفرنسية وطريقة معالجتها لدور الكنيسة في الدولة النموذج الذي اعتمد عليه واحد من أشهر العلمانيين في العالم الإسلامي: مصطفى كمال أتاتورك في تركيا. رأى أتاتورك أن المؤسسة الدينية الإسلامية هي العدو الذي يجب القضاء عليه، مثلما رأى الثوَّار في فرنساالفاتيكان عدواً لثورتهم، صادر أتاتورك ممتلكات المؤسسات الدينية وحظر الفتاوى الدينية، كما فرض رؤية معادية للكاثوليكية في تدريس تاريخ أوروبا، استلهاماً من الأفكار العلمانية للثورة الفرنسية والبروتستانتية الأميركية، لدرجة أن الكثير من الشباب التركي – حتى اليوم – يعتقدون أن البروتستانت هم المسيحيون العصريون والكاثوليك هم المسيحيون الرجعيون. لكن من يتابع الأخبار المقبلة من تركيا خلال العقد الماضي تقريباً يعلم جيداً أن سياسة أتاتورك العلمانية لم تنجح تماماً، لقد ظلَّت السياسة التركية منقسمة في شكل حادٍ بين الذين يعتقدون أن بلادهم أصبحت علمانية أكثر من اللازم، وبين الذين لا يتوقَّفون عن الشكوى من أنها ليست علمانية بما يكفي. إن دعوى الغربيين أن المجتمعات الإسلامية في حاجة الى استنساخ أحد النماذج الأوروبية لفصل الدين عن الدولة وتحقيق الإصلاح الديني المنشود يستبطن النزعة الاستعلائية والمركزية الغربية ويرفض ضمناً أي مشروع لتحقيق الإصلاح والنهوض بمعزل عن السياق التاريخي الغربي، وهو ما يحيلنا إلى نزوع لا واعٍ نحو قولبة الإصلاح الديني الإسلامي أكثر منه رغبة حقيقية في إنجازه... وربما إنجاحه!