لا أظن أن الحياة الثقافية المصرية قد شهدت زمناً بالغ السوء مثل هذا الزمن الذي نعيش تحدياته ومشكلاته، وذلك إلى درجة أسأل فيها نفسي كثيراً هذه الأيام هل هذه هي مصر التي أعرفها، وأحفظ تاريخها عن التسامح والاستنارة. إننا لا نكاد نخرج من كارثة فكرية من كوارث الإظلام إلا وندخل في كارثة أخرى. وها هي محاكمة قصيدة للشاعر حلمي سالم تؤكد ذلك، الطريف الذي يبعث على الأسى أن قصيدة حلمي سالم عن شرفة ليلى مراد قد نشرت في مجلة «إبداع». وعندما صدر العدد تحرك بعض المخبرين الثقافيين كالعادة، وأبلغوا هيئة الكتاب بأن مجلة «إبداع» قد حملت في صفحاتها قصيدة مليئة بالكفر والإلحاد، ولم يكن الأمر قد وصل إلى ما وصل إليه بعد، فقامت لجنة خاصة في هيئة الكتاب بفحص العدد، وتوقفت عند مقطع في قصيدة اشتمت منه نبرة إلحادية، وعلى الفور قامت هيئة الكتاب بسحب العدد من الأسواق وإعدامه، وطباعة عدد جديد، تخلو فيه القصيدة من هذا المقطع وقد كان ما فعلته هيئة الكتاب اعتداء على حرية التعبير، وتدميراً لحضورها، حتى لو كانت الحجة هي حرص الهيئة على أن لا يصدر عنها ما يسيء إلى الدين الإسلامي وأسفنا على الزمن الذي تفرض فيه رقابة دينية، خائفة إلى حد الذعر، من هيئة يفترض فيها احترام حرية الرأي لكننا قدرنا المأزق الذي وقع فيه رئيس الهيئة ورئيس التحرير، خصوصاً أن ثانيهما سبق أن حُكِم عليه في قضية من النوع نفسه، وتعاطفنا معه كلنا، بعد أن قامت المحكمة بتغريمه عشرين ألف جنيه، والحجز على أثاث بيته تنفيذاً للحكم وكانت فضيحة لن يغفلها بالقطع الكتاب الأسود لتاريخ حرية التعبير في هذا الزمن المظلم من أزمنة مصر الثقافية وما إن هدأت الضجة حول الحكم على حجازي والحجز على بيته، والهجوم الكاسح من بعض المحسوبين على الدين الإسلامي، أو من بعض الذين نسبوا أنفسهم، أو ندبوها، للدفاع عنه، حتى بدأت ضجة أخرى. فقد قام الشيخ نفسه الذي تخصص في رفع قضايا الحجر على حرية تعبير المبدعين برفع دعوى على المجلس الأعلى للثقافة لكي يسحب من الشاعر القيمة المالية التي حصل عليها الشاعر تقديراً لشعره، وهو شعر يستحق التقدير بالفعل وصدر حكم محكمة إدارية يقضي بذلك ولكن تنفيذ الحكم كان مستحيلاً عقلاً وقانوناً أولاً بسبب أن الإنتاج الذي حصل به الشاعر على الجائزة، يسبق نشره تاريخ الإعلان عن الجائزة، فضلاً عن الحصول عليها وثانياً لأن الجائزة ذهبت إلى الشاعر لمجمل أعماله الشعرية وليس لقصيدة واحدة، هي موضع النزاع القضائي وثالثاً لأن الجائزة لا يمنحها وزير الثقافة، ولا هي قراره بوصفه رئيساً للمجلس الأعلى للثقافة، وإنما هي قرار غالبية أعضاء المجلس الذين يمنحونها لمبررات موضوعية، لا دخل للدين أو السياسة فيها وليس للوزير سوى سلطة التصديق والإعلان. ومرت الأيام، وانتهت إحدى حلقات المسلسل العبثي، لكن لتبدأ قضية أخرى، فقد أفلح أعداء حرية التعبير في أن يستصدروا من المحكمة الإدارية قراراً بإلغاء ترخيص مجلة «إبداع» عقاباً لها على نشر القصيدة التي لا تزال مطاردة في المحاكم، شأنها شأن الشاعر الذي كان متهماً بتهمة الكفر والإلحاد على مقطع في قصيدة كتبها على سبيل التجريب والغريب أن المحكمة الإدارية أصدرت هذا الحكم من دون مراعاة لأن هذه المجلة سبق أن أعادت الهيئة العامة للكتاب طبعها، بعد سحبها من الأسواق، وأن رئيس التحرير وافق على قرار الهيئة الذي تم تنفيذه بالفعل ونسيت المحكمة الإدارية. ثانياً، أن هذه المجلة لا تنشر لهذا الشاعر وحده، وهو حلمي سالم الذي له وزنه ومكانته في الشعر العربي المعاصر، وإنما تنشر لمئات غيره من الكتاب والمبدعين، أن التجريم الذي أوقعته المحكمة على المجلة، ظلماً، بإلغاء ترخيصها، إنما يقع عبؤه على المئات من غير الشاعر الذين ينشرون إبداعهم وإنتاجهم في المجلة التي أغلقت دونهم بقرار المحكمة غير العادل، وغير الدستوري فيما أظن، لأن الدستور ينص على حرية التعبير، والمواثيق العالمية لحقوق الإنسان التي وقعت عليها مصر، وأصبح لها وزن القانون المصري وتأثيره بوصفه ينص على حرية التعبير وحجة الإساءة إلى الدين الإسلامي لا محل لها من الإعراب في هذا السياق، لأنها تبنى على عبارة حمالة أوجه، وتطرح السؤال عن من الذي يحدد الإساءة، هل الشيخ المتعصب أم الناقد الأدبي المتخصص؟ وبالطبع، لم يقصر المثقفون المصريون في الاحتجاج، فكتبوا المقالات، واحتجوا على صدور القرار، ولكن المثقفين المصريين للأسف جماعة لا حول لها ولا قوة من الناحية العملية، وهي مهمشة إلى أبعد حد، ومتهمة ومدانة من قوى الإظلام وتيارات التعصب والتطرف من ناحية، ومن استبداد الحكومة التسلطية التي تحكمهم ولا تقيم لهم أي اعتبار من ناحية ثانية. وكانت المفاجأة المفرحة المبكية، عندما نشر صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة «القاهرة» المصرية دراسة مسهبة في حيثيات قرار المحكمة الإدارية إلغاء ترخيص مجلة «إبداع» ومعها نص حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر بإلغاء قرار حكم المحكمة الإدارية العادية بإلغاء ترخيص جريدة «النبأ» سنة 2001 لنشرها صوراً إباحية تتعلق بسلوكيات راهب مفصول وبعد أن درس صلاح عيسى حيثيات رفض المحكمة العليا لقرار المحكمة العادية، انتهى إلى تأكيد أن المادة 207 من الدستور تنص على أن تمارس الصحافة رسالتها بحرية، وفي استقلال، في خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير، وذلك في إطار احترام حرية الفكر والتعبير ويضيف صلاح عيسى إلى ذلك، وهو الأهم، أن قانون سلطة الصحافة 96 لسنة 1996، وهو القانون الذي ينظم حق إصدار الصحف والترخيص بها، يحدد، على سبيل الحصر، الحالات التي يجوز فيها إلغاء ترخيص الصحيفة، وهي: 1- عدم صدورها خلال الأشهر الثلاثة التالية على الترخيص بها. 2- عدم انتظامها في الصدور لمدة 6 شهور. 3- عدم اكتمال هيكلها التحريري وليس في ما فعلته «إبداع» بنشر قصيدة «في شرفة ليلى مراد» ما يدخل في هذه الأسباب أو يقترب منها ويضيف صلاح عيسى إلى ذلك أن العقوبة شخصية، وأنه إذا صح إيقاعها على شخص الكاتب فلا يصح إيقاعها على المجلة أو الصحيفة، لأن كلتيهما يمكن أن تنشر، ويجب عليهما نشر، ما يختلف عن رأي هيئة تحريرها، إعمالاً لمبدأ حرية التعبير بوجه عام من ناحية، وحرية الإبداع من ناحية موازية. أما اتهام القصيدة بأنها، في مقطع منها، تزدري الدين الإسلامي فمسألة فيها نظر، ولا حكم فيها لفكر التعصب الذي يقرأ الأعمال الإبداعية المعاصرة من منطق الاسترابة والاتهام المسبق ولو أعمل هذا الفكر مبدأ «سماحة» الإسلام، وتغليب حسن الظن على سوء الظن، لتوقف عن رفع القضايا التي تزج بالقضاء فيما ليس مؤهلاً للحكم عليه، فالقضاة ليسوا رجال أدب أو نقد، ويقود الإبداع في الأمة إلى طريق مسدود، يجعل لكل مبدع رقيباً داخلياً، إلى جانب الرقيب الخارجي، ويحجر على المبدعين المضي في أي نوع من المغامرة الفنية أو الإبداعية، وأغلب الظن أن المتعصبين الذين يرفعون هذه القضايا يرفضون ما استقر عليه الفكر المصري في أزمنة استنارته، خصوصاً حين كان العقلاء من المشايخ يأخذون بالمبدأ الذي أكده الإمام محمد عبده بقوله: «إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِلَ على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر». وقد نسب البعض هذا القول إلى الإمام مالك وسواء صحَّت النسبة أو لم تصح، فالمعول فيها على حسن الظن عند التأويل أولاً، والبحث للقائل عن مخرج، يضع القول في دائرة الإيمان مهما بدا ظاهره بعيداً عنها. وكنت أودّ لو توقف قاضي المحكمة الإدارية، قبل إصداره الحكم بإلغاء الترخيص، عن قراءة حيثيات أعداء حرية التعبير وحدهم، فقد كان من واجبه أن يستمع إلى الآراء المختلفة، ويستعين برأي ذوي الخبرة من كبار المثقفين، وعددهم محدود في نهاية الأمر لكن يبدو أننا نتحدث عن أمور أصبحت عسيرة في هذا الزمن الذي تعانيه الثقافة المصرية، ويبدو أن انفراج أزمة هذا الزمن لن تحل قريباً، لأنها أشد تعقيداً مما نراه خلال النظرة السطحية للأمور، فقد اتسع الخرق على الراقع في ما يبدو، وأصبحت قضية حلمي سالم قضية غيره من المبدعين والكتاب الذين تطاردهم أحكام الحسبة الجديدة، بعد أن التقطت الثقافة المصرية أنفاسها بعد تقييد دعاوى الحسبة القديمة التي انتهت إلى الحكم السيئ السمعة بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجه. ولولا صدور حكم بإيقاف تنفيذ هذا الحكم، وهجرة الرجل وزوجه، اضطرارياً، إلى هولندا، ولولا المسارعة إلى إيقاف الكارثة بتشريع من مجلس الشعب، لكان من الممكن أن ندخل عصراً جديداً لمحاكم التفتيش ولكن الخطر لا يزال قائماً، فالمتربصون بحرية الإبداع والتفكير سرعان ما فكروا في حيلة جديدة، تتوسل بالقضاء وتزج به إلى عمليات لا تنتهي من الحجر على حرية الإبداع وحق التعبير وها هو اختراع إقامة دعاوى جنح مدنية على المثقفين يأخذ موقعاً صاعداً، متزايد الانتشار، ويحل محل دعوى الحسبة القديمة. وما العمل؟ إذا كانت الدولة تحابي الاتجاه الديني، وتسعى إلى تهدئة العلاقة بينها وبين الجماعات الإسلامية، حتى لو كان ذلك على حساب حرية الإبداع وحق التعبير اللذين لا تكن لهما أغلب الحكومات العربية أي نوع من التقدير والاحترام، وفي موازاة ذلك مثقفون متشرذمون، ما يباعد بينهم أكثر مما يقارب، تغلب على مواقفهم النزعات الشخصية والمصالح الذاتية، ولا يعرفون آداب الحوار في ما بينهم ولحسن الحظ، لا ينطبق ذلك على الجميع، فهناك المجموعة القابضة على الجمر، من ذوي الضمائر النزيهة، والتفكير العقلاني وما يقع على حلمي سالم سوف يقع على غيره، وأن قضيته هي قضية الثقافة المصرية التي علّمت كل ما حولها، وقت ازدهارها في العصر الذهبي لليبرالية المصرية، أن حرية الإبداع مقدسة، وأن حق التعبير مصان بقوة القانون والدستور. ومن المؤكد أن هذا العصر الذهبي لن يعود، ولكن المثقفين جميعاً يستطيعون، إذا آمنوا حقاً، أن ما يحدث لواحد منهم يحدث لهم جميعاً، وأن حق التعبير كحرية الإبداع لا يتجزأ، وأن الدفاع عنه هو دفاع عن المستقبل الذي لن يأتي بأنجمه الوضاءة من العدم، أو في شكل منحة من فرد أو جماعة أو حكومة، فهو حق ينتزع بالدفاع الجماعي عنه، والنضال في سبيل الوصول إليه، والوحدة القائمة على التنوع بين المثقفين لا التشرذم القائم على الأهواء، حيث يختلط كل شيء بأي شيء، فتبدو المبكيات مضحكات، والمضحكات مبكيات، في عالم الثقافة المصرية المعاصرة التي ينطبق عليها قول أبي الطيب المتنبي: وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا