فيضان النقاشات والسجالات الكلامية حول ما حصل في احتفالات ليلة رأس السنة الميلادية في كولونيا وهامبورغ وبعض المدن الأوروبية الأخرى، لم يتوقف في الأوساط الإعلامية والاجتماعية والأكاديمية لدرجة أنه أطاح جدار المخاوف الأمنية من اجتياح عناصر «داعش» حدودَ شنغن، والدوران في دائرة من خيوط الرعب التي مدت نسيجها في نفوس مواطني الدول الأعضاء المتوجسين من السحنات الشرق أوسطية، وأصبحوا متأهبين للتخلي طوعاً لحكوماتهم عن حرياتهم الشخصية مقابل ضمان أمنهم العام وسلامة أطفالهم وعوائلهم. سيل الشكاوى من نساء تعرضن للتحرش الجنسي والسرقة يتواصل ويرتفع منسوبه مع مرور كل يوم وكل ساعة على رغم أن شهر كانون الثاني (يناير) شارف على نهايته، ووجدت السلطة نفسها حيال الضغط الشعبي الواسع مضطرة لتشكيل طواقم خاصة أناطت بها مهمة التحري والتحقيق في هذه الشكاوى، والكشف عما حدث بدقة متناهية بغية تهدئة الغضب العارم وتحجيم وتيرة الانقسامات المجتمعية المتزايدة. وأعلنت السلطات الأمنية الثلثاء حصيلة جديدة من الشكاوى بلغت حتى الآن 883 شكوى في كولونيا وحدها من بينها 497 شكوى تحرش جنسي. ووفقاً للتقرير الذي نشرته وسائل الإعلام الألمانية فإن عدد الجرائم التي اقترفها لاجئون في هذه الليلة بلغ 771 من بينها ثلاث عمليات اغتصاب. لم تساعد إحالة مدير عام شرطة كولونيا فولفغانغ البرس على التقاعد قبل بلوغه السن التقاعدية، في تخفيف وتيرة الانتقادات الحادة للشرطة بسبب تقاعسها عن حماية النساء اللواتي تجمعن أمام كاتدرائية المدينة ومحطة السكك الحديد المركزية للاحتفال بقدوم العام الجديد وتجاهل عناصرها طلباتهن بنجدتهن والقبض على المعتدين، ووجد قادة المعارضة في الاستياء العام الناشئ فرصة لتكثيف الهجوم على المستشارة أنغيلا مركل في سياق حملة منظمة شنتها مجموعة من المعلقين والمحللين في وسائل الإعلام تطالب مركل باتخاذ إجراءات سريعة لطرد منتهكي القوانين والحريات العامة من اللاجئين والمهاجرين من البلاد، والإسراع في تبديل السياسة المعتمدة في ما يخص التعاطي مع طلبات اللجوء والهجرة إلى ألمانيا بحيث تفتح الأبواب فقط أمام اللاجئين الفعليين الفارين من الحروب وإعادة المهاجرين لأسباب اقتصادية إلى بلدانهم. مجلة «شبيغل» نقلت عن المواطن الألماني من أصول تركية أرجان يشار أوغلو قوله: «إن عمليات التحرش الجنسي والسرقة تحدث في برلين وغيرها من المدن منذ سنة على الأقل، وليس فقط في احتفالات العام الجديد». وأضاف: «هذا سلوك يومي لآتين من بلدان شمال أفريقيا، قسم منهم رفضت السلطات المعنية طلبات لجوئهم، ولكنهم بسبب تساهل الأجهزة المعنية يواصلون العيش في ألمانيا في ظروف بائسة ويعيشون على السرقات الصغيرة» على حد تعبيره. حالة صعبة ودفاع عن النفس الشرطة رفضت الاتهامات بالتقاعس عن أداء واجبها أو في التعاطي مع الوضع الشاذ الناشئ في ليلة رأس السنة، ونفت عدم استجابة رجالها لنداءات طلب الحماية من نساء تعرضن لتحرش جنسي وسرقات أثناء وجودهن في ساحة الاحتفال، ورد أحد أفراد القوة التي كانت تحرس المكان في هذه الليلة على الاتهامات في حديث مع «شبيغل» موضحاً أن «المشهد كان عشوائياً والساحة ازدحمت بالسكارى الذين كانوا يطلقون الألعاب النارية فيما انتشرت جماعات منفلتة كانت يتوسّلون العراك مع أي كان تحت تأثير المشروبات الكحولية والمخدرات، بالتالي فإنه في مثل هذه الأجواء من الفوضى والمفرقعات والضجيج كان من الصعب معرفة ما إذا كان الناس يصرخون فرحاً وابتهاجاً أم يطلبون النجدة». وبناء على تقرير لصحيفة «كولنر شتات انتسايغر» المحلية، فإن «الشرطة في كولونيا أخفت عن عمد ذكر الأصول التي يتحدر منها المشتبه بهم في الفضيحة». تشير البيانات الرسمية إلى أن جرائم الإتجار بالمخدرات في ألمانيا ارتفعت خلال العام الأخير وحده بمعدل 90 في المئة، فيما ازدادت حوادث النشل والسرقات بنسبة 3 في المئة. وتداولت الصحف الألمانية معلومات تفيد بأن مجموعة من رجال الأعمال الألمان اشتكت في رسالة بعثتها إلى عمدة برلين من وقوع ساحة «كيبور تور» تحت سيطرة عصابات إجرامية تنغص على السياح والمارة حياتهم اليومية. تقر الشرطة بواقع صعوبة جمع الأدلة والبراهين عن مرتكبي الجرائم وانتهاكات الحريات الفردية ووفق ما ذكر المتحدث الرسمي باسم الشرطة، فقد تم التعرف إلى 31 مشتبهاً بهم بينهم 18 طالب لجوء، وألقي القبض على 7 فقط بينهم مغربي وتونسي في حوزتهما تسجيلات عن اعتداء على نساء، أما الخمسة الآخرون فبتهمة السرقة بعد أن وجدت في حوزتهم أجهزة هواتف نقالة مسروقة. وقال أن من بين المشتبه بهم 9 جزائريين و8 مغاربة و5 إيرانيين وعراقي وصربي وأميركي وألمان. في هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والغضب، أشعلت جرائم التحرش الجنسي في ألمانيا وأوروبا لهيب غرائز معاداة الأجانب واللاجئين والمهاجرين وحفّزت طروحات الإسلاموفوبيا في أوساط فئات اجتماعية كانت التزمت الصمت وكتمت غضبها من سياسات مركل تحسباً لاتهامها بالعنصرية والكراهية الإثنية، ما يجعلها في مواجهة القوانين التي تحرم الأفكار العنصرية والفاشية التي تحكم سلوك أفراد المجتمع الألماني الذي لم يتحرر من عقدة ذنب المحرقة اليهودية. الصحافية والكاتبة العراقية المقيمة منذ أكثر من ثلاثة عقود في ألمانيا إقبال القزويني قالت ل «الحياة»: «تحولت ألمانيا الآن إلى ساحة تفترشها ألغام تنبئ بانفجار تمرد شامل ضد سياسة فتح الأبواب أمام مئات آلاف اللاجئين من سورية ودول الشرق الأوسط، وذلك بسبب التصرفات الغريبة والسلوك المشين لجماعات تبدر منها أفعال يبدو أكثرها متعمداً لإظهار رفضهم القيم الغربية التي تتعارض مع تربيتهم الدينية والاجتماعية ومع مفاهيم السلوك العربي والإسلامي العام». وبرأي المحلل الألماني فولكر فاكنر في تعليق نشره موقع «دويتشه فيلله»، فإن «سياسة مركل وترحيبها بقدوم مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى ألمانيا أفرزت تحديات اجتماعية تنطوي على أخطار تنذر بتحول النيات الطيبة للمستشارة إلى نتائج سيئة، مع قيام عدد كبير من الشخصيات السياسية والاجتماعية ومن بينهم حلفاء للمستشارة في الحكم بإطلاق الخطابات النارية وإبداء المزيد من التشدد في مواقفهم السياسية لدرجة الإفصاح عن سخريتهم وشكوكهم من قولها: «أن ألمانيا ستتخطى العواقب الصعبة كلها». مسلمون في خدمة الإسلاموفوبيا ألمانيا لم تعد كما كانت عليه قبل أحداث كولونيا وهامبورغ، فالجماعات المعروفة بخطابها المعادي للأجانب ومعها الفاشيون الجدد والعنصريون والشعبويون تلقفوا فورة الغضب الاجتماعية من اللاجئين الذين تصدر عنهم في كل يوم في المولات وقطارات الأنفاق والأوتوبيسات العامة، تصرفات غريبة تتعارض مع طبيعة القيم الأوروبية والحياة الألمانية المتسمة بالانضباط الدقيق في السلوك في الأماكن العامة، وسخّروها لبث الكراهية ضد المهاجرين واللاجئين، بخاصة من أصول عربية وإسلامية، وتأليب الرأي العام ضد السلطة الحاكمة والمستشارة مركل شخصياً في سياق منظم لتهيئة المجتمع للانتخابات العامة التي ستجرى خلال العام الحالي، وذكر «دويتشة فيلله» أن لاجئاً سورياً قام بتمزيق وثائق إقامته التي حصل عليها من سلطات اللجوء والهجرة أثناء استجوابه في مركز للشرطة مردداً عبارات استفزازية بأنه سيحصل على غيرها غداً لأن مركل هي من دعته إلى القدوم إلى ألمانيا، ولقد أثارت فعلته هذه التي رددتها غالبية وسائل الإعلام، مشاعر الاستغراب والاشمئزاز من تصرفات هذا اللاجئ، والتي أخذت تكتسب بوتيرة متصاعدة صفة ظاهرة عامة بين اللاجئين والمهاجرين، غريبة في شكلها وجوهرها عن المجتمع الألماني وعاداته وقيمه. وتروي الصحف الألمانية عشرات من الحوادث المماثلة التي تعمق حالة الرفض والإنكار لدى فئات اجتماعية كثيرة كانت أبدت تعاطفاً استثنائياً مع قضية اللاجئين الطالبين الحماية في ألمانيا. يتفق العدد الأكبر من المعلقين والمحللين الألمان على أن سياسة فتح الحدود أمام اللاجئين التي اتبعتها مركل، وأخذت تتراجع تدريجاً بخجل عن بعض عناصرها وأركانها الأساسية، تحولت إلى خطر يهدد بانفجار في أوساط الطبقة الوسطى من المجتمع الألماني التي يزدحم محيطها النفسي العام بألغام من شأنها أن تفجر حالة الإجماع الوطني التي تميز بها الشعب الألماني عن غيره من الشعوب الأوروبية الأخرى، ويحذر خبراء السياسة وعلماء النفس من إمكانات متزايدة لوقوع المجتمع بغالبيته في فخ التشدد السياسي الذي نصبته الأحزاب القومية المتشددة والشعبوية. وتحدثت مركل للمرة الأولى أمام اجتماع لقيادة حزبها الديموقراطي المسيحي في ماينتس عن «تطبيق إسقاط حق اللجوء في ألمانيا في شكل أكثر منهجية في حالة ارتكاب جريمة». تنشغل مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية ووكالات استطلاع الرأي الاجتماعية بتتبع اتجاهات الرأي الاجتماعي في ألمانيا وتأثيرات جرائم كولونيا على مستقبل منظومة القيم الأخلاقية والثقافية في ألمانيا ومصير المستشارة مركل وحزبها في الانتخابات المرتقبة على خلفية تراجع شعبيتها في آخر استطلاعات الرأي. وطرح محللون أفكاراً ووجهات نظر تعتبر ما حدث في رأس السنة أمراً غريباً وغامضاً وضبابياً، وهو ما اعترفت به أجهزة الشرطة ووكالة حماية الدستور (الأمن العام) بإشارتها إلى أن أعداد مرتكبي جرائم السرقة والتحرش الجنسي في هذه الليلة قد تعدى عدة مئات، ووصل إلى أكثر من 1000 رجل، ما يدعو إلى الشك بإمكانية أن تكون هذه الجرائم مدبرة ومنظمة ومنسقة مسبقاً، وفي هذا السياق قال وزير العدل هايكو ماس في حوار مع صحيفة «بيلد»: «لا أحد بمقدوره أن يقنعني بأن ما حصل هو حادث عرضي وأنه لم يكن منظماً ومنسقا»، وأضاف: «قناعتي الشخصية بأن اختيار هذه الليلة لم يكن اعتباطياً أو مصادفة، بل كان تعمداً واضحاً واستغل وجود هذا العدد الكبير من الناس في مكان واحد بغية إضفاء طابع الجريمة وإثارة النقمة والاستياء العام لدى الجمهور». مستفيدون و متضررون الأسئلة كثيرة، لكن الإجابات المقنعة عن الأسباب والدوافع والجهة التي تقف وراءها ما زالت غائبة، ونسيج خيوطها مجهولاً حتى الآن. الشيء الأكيد في المقابل هو أن المستفيد منها أولاً، أحزاب اليمين القومي المتطرف، وأطياف متعددة من جماعات وتيارات معروفة بأيديولوجية الإسلاموفوبيا ومعاداة وكراهية الأجانب من الإثنيات والأديان الأخرى. أما المتضررون فهم بالدرجة الأولى اللاجئون من النساء والأطفال السوريين. ركزت القوى المناهضة لمركل والجماعت المعادية للأجانب واللاجئين في نسق واضح على إثارة الغرائز الفردية والجماعية ضد من سمتهم «أجانب قدموا إلى بلادنا للاعتداء على شرف زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا»، وترافق ذلك مع تشويه تصريح لعمدة مدينة كولونيا هنريتا ريكر بحيث نسب إليها عبارات لم تتفوه بها على الإطلاق من قبيل دعوتها الألمانيات إلى ارتداء ملابس محتشمة مراعاة للتقاليد الإسلامية. ولقد تم تداول هذا التصريح المفبرك على نطاق واسع ليس في الصحف الألمانية وحدها، وإنما الأوروبية الغربية والشرقية على حد سواء وهي إذ فعلت ذلك خرجت بمانشتيات تبث الكراهية والعنصرية تقول: «ما الذي فعلتموه بنسائنا؟»، أي بكلمات أخرى «إن العنف الجنسي ضد النساء ظاهرة تتميز بها ثقافة الغزاة الجدد، فيما هي حالة غريبة وغير مألوفة في مجتمعاتنا وبلداننا». التحرش الجنسي ظاهرة منتشرة في جميع أنحاء العالم بما فيها البلدان العربية والإسلامية، ونظرة سريعة عبر محرك غوغل ستقدم ما يكفي من الأمثلة على انتشار هذه الظاهرة في جميع المجتمعات بما فيها الأميركية والأوروبية. ويشير تقرير صادر عن الأممالمتحدة في عام 2003 نشر وتم تداوله قبل سنوات سبقت موجات اللاجئين الأخيرة من دول الشرق الأوسط إلى أوروبا، إلى «أن 40 في المئة من النساء الألمانيات اللاتي تم استطلاعهن اشتكين من أنهن تعرضن لتحرش جنسي واعتداءات جسدية». في هذا السياق، كشف استطلاع عن العنف الجنسي أجرته في عام 2014 الوكالة الأوروبية للحقوق العامة «أن 50 في المئة من النساء الألمانيات المشاركات فيه أبلغن أنهن كن ضحايا تحرش جنسي». ويتضح من تقارير صادرة عن منظمات أوروبية مختصّة أن امرأة واحدة من كل عشر تتعرض للاعتداء الجنسي كل سبع دقائق في دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تعرض 25 في المئة من نساء أوروبا إلى العنف من أزواجهن. ووفق قناة «يورونيوز الإخبارية التي نقلت تفاصيل تقرير أعدته لمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة أن «90 في المئة من النساء اللواتي يتعرضن للاغتصاب في فرنسا لا يرفعن قضايا ضد من اغتصبوهن». أحدثت فضائح التحرش الجنسي في كولونيا وهامبورغ وغيرهما من المدن الألمانية في احتفالات رأس السنة، صدمة كبيرة في المجتمع الألماني، وقال المعلق في صحيفة «لوموند» نيلز مينكمار: «إن الجمهور الألماني تحول بين ليلة وضحاها من شعب يؤمن بثقافة الضيافة إلى شعب يخاف من الغرباء بعد اكتشافه أن من استضافهم يعتدون عليه». ورأت «شبيغل» أن «السلوك البشع لمهاجرين سيضر بالمناخ الإيجابي في ألمانيا حيالهم» وأكدت «أن المانيا تنتظرها أيام صعبة» و «أن الشعار الذي رفعته مركل «نحن نستطيع، لم يعد كافياً».