القمة التي استضافت قادة 47 دولة، وأعادت إلى الأذهان قمة سان فرانسيسكو العام 1945 التي استضافها الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت وأعلن خلالها إنشاء منظمة الأممالمتحدة، كان ينبغي لها أن تفتتح عصراً جديداً من التعاون الدولي وترسم «خريطة طريق» أمام اجتماع الدول المصدّقة على اتفاق الحد من انتشار السلاح النووي المقرر عقده في أيار (مايو) المقبل في نيويورك، لا سيما أن ثمة من رأى فرصاً وإمكانات متاحة لتحقيق اختراق في هذا المضمار المرتبط بأمن العالم وسلامته. ومن تلك الفرص التغيير القيادي الذي شهدته الولاياتالمتحدة، وحماسة الرئيس باراك أوباما حيال نزع السلاح النووي من العالم، وتأييد الرئيس الروسي الأسبق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين لهذا المنحى، وفقاً لخطاب ألقاه في أيلول (سبتمبر) الماضي، وكذلك ارتفاع منسوب التأييد العالمي لفكرة التوصل إلى اتفاقية شاملة تهدف إلى القضاء على كل الأسلحة النووية وفقاً لجدول زمني معين تحدده هذه الاتفاقية، بحسب ما أظهره استطلاع للرأي في 21 دولة حول العالم وصلت فيه نسبة هذا التأييد إلى 76 في المئة. وكانت القمة العتيدة أعقبت حدثين مهمين في هذا الإطار: الأول، اتفاق الولاياتالمتحدة وروسيا على استمرار العمل باتفاقية «ستارت» والتعهد بتقليص ترسانتيهما النوويتين، والثاني، إقرار إدارة أوباما «إستراتيجية نووية جديدة» كان أبرز عناصرها مواجهة انتشار الأسلحة النووية ومنع «الإرهابيين» من اقتناء واستخدام أسلحة نووية توصف بأنها خطر وشيك بالغ، والإبقاء على قوة ردع نووية معتبرة مع خفض الأسلحة والصواريخ وأنظمة تلقيم قاذفات القنابل، وتعزيز جهود الردع الإقليمي لحماية حلفاء الولاياتالمتحدة، ودعم الترسانة النووية العتيقة والبنية المتعلقة بها بتحديثات، ولكن مع وقف تطوير رؤوس حربية نووية وقنابل جديدة. كل ذلك كان يفترض أن يصب في طاحونة السعي إلى تصحيح الخلل في النظام الدولي النووي وآليات عمل مؤسساته وأطره المتعددة، والتي تتوزع بين «اتفاقية منع الانتشار النووي» (NPT)، و «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» (IAEA)، و «المناطق الخالية من الأسلحة النووية»، و «اتفاقية الحماية المادية للمواد النووية»، و «الاتفاقية الدولية لقمع أعمال الإرهاب النووي»، و «الاتفاقية الشاملة لمنع التجارب النووية»، و «المبادرة العالمية لمكافحة الإرهاب النووي»، و «معاهدة وقف إنتاج المواد المشعة»، ومحاولة التوكؤ، كذلك، على الزخم الدولي المؤيد لجهود إخلاء العالم من أسلحة الدمار الشامل خلال السنوات المقبلة، والذي تبدى جلياً في مبادرة «غلوبال زيرو» التي تم إطلاقها في باريس، في الحادي عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، من أكثر من 100 شخصية من مختلف أنحاء العالم من الخبراء الدوليين والقادة السياسيين ورجال الأعمال ورجال الدين وقادة المجتمع المدني ممن ينتمون الى تيارات سياسية مختلفة، والهادفة إلى خلق رأي عام عالمي قوي، يساند بقوة الجهود التي يبذلها قادة العالم من اجل الحد من خطر انتشار الأسلحة النووية في العالم، والوصول إلى اتفاقية شاملة تكون غايتها النهائية الوصول إلى خفض مخطط ومنظم لترسانة الأسلحة النووية الموجودة في العالم. غير أن هذه الأرضية الخصبة، لم تستطع ملامسة واقع الحال «النووي» في العالم، وبالأخص في الولاياتالمتحدة التي تحكمها شبكة معقدة من مصالح الجماعات والفئات والقطاعات المختلفة. ففي دراسة فريدة استغرق إعدادها أربع سنوات، وصدرت أخيراً عن «معهد بروكنجز» في واشنطن، جاء أن ما تكبدته الخزينة الأميركية، في المجال النووي، منذ الأربعينات وحتى أوائل الألفية الجديدة، يقارب الستة تريليونات دولار. واللافت في الدراسة، هو أن إنتاج الأسلحة النووية في حد ذاتها لا يتعدى 7 في المئة من مجمل هذه المبالغ، فيما يذهب القسم الأعظم منها إلى ملحقات البرنامج النووي الأميركي المتمثلة في الكثير من البرامج غير المجدية أو الفاشلة التي تذهب عوائدها إلى المجمع الصناعي العسكري في أميركا، ناهيك عن ضياع قسم من آخر من التكاليف في خضم المنافسة الحادة بين سلاح الطيران وسلاح البحرية اللذين يريد كل منهما حيازة الأسلحة النووية التي حصل عليها الآخر وبالقدر نفسه. وبالتالي، فإن قطع أو إلغاء إنتاج بعض تلك الأسلحة سيقطع الدعم عن المصانع التي تنعش اقتصادات عدد كبير من الولايات وفقدان ممثليها في الكونغرس لمقاعدهم ونفوذهم التقليدي، وهو ما يفسر خلفية الرسالة الشديدة اللهجة التي وجهها، في السادس عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي، واحد وأربعون عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ في الكونغرس الأميركي إلى الرئيس أوباما، وانتقدوا فيها توجهاته لإجراء خفض ملحوظ للترسانة النووية على حساب ما سموه «الأمن القومي الأميركي»، وهددوا بعرقلة التصويت على موازنة الدفاع لعام 2011 ما لم تمض إدارة أوباما في تنفيذ مطالبهم. تحت هذه الظلال، لم يكن من الممكن إخراج القضية النووية، في قمة واشنطن، من بازار المقايضات السياسية والاقتصادية، وإبعادها من أتون الصراع المحتدم على أكثر من جبهة في العالم، وذلك بعدما طفت على السطح حقيقة تمكن إدارة أوباما من إلباس القمة ثوب مصالحها وأجندتها السياسية، عبر التراجع أمام إسرائيل، والتزام الرئيس أوباما سياسة «الغموض» التي تتبعها الدولة العبرية حيال مسألة التسلح النووي، وغض الطرف عن رفضها توقيع أية اتفاقية في هذا الخصوص، وذلك في مقابل تسليط الضوء والتركيز على ما تسميه الإدارة الأميركية «خطر القنبلة النووية الإيرانية»، على رغم إعلان مساعد رئيس هيئة الأركان العامة الأميركية الجنرال جيمس كارترايت أنه «إذا ما اتخذت طهران القرار بتطوير ترسانة نووية»، فإن «الخبرة تشير إلى أن ذلك قد يتطلب ثلاثة إلى خمسة أعوام»، وتقدير رئيس وكالة استخبارات الدفاع الأميركية رونالد بيرغس، أن أجهزة الطرد المركزي التي جهزتها إيران تمكنها من «إنتاج كمية من اليورانيوم العالي التخصيب تكفي لصنع قنبلة نووية واحدة خلال مدة لا تزيد على العام»، وتركيز الإدارة الأميركية كذلك على «احتمال» أن يمتلك تنظيم القاعدة أو إحدى خلاياه وشبكاته قنبلة نووية، مع أن إدارة أوباما نفسها ما فتئت تؤكد أن التنظيم يعاني من الحصار والتهتك، ليس فقط في أفغانستان وباكستان، وإنما في مختلف أنحاء العالم، ما يبعد مجرد احتمال حصوله على أسلحة دمار شامل. * كاتب فلسطيني.