تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    رسميًا.. رانييري مدربًا لسعود عبد الحميد في روما    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    الحقيل يلتقي في معرض سيتي سكيب العالمي 2024 وزيرة الإسكان والتخطيط الحضري البحرينية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    وزير الإعلام يلتقي في بكين مديرَ مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    «محمد الحبيب العقارية» تدخل موسوعة غينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ الضيوفي    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أفراح النوب والجش    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    أجواء شتوية    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ديموقراطية يتيمة: أسّسها الوجهاء وألغاها العسكر بلا اعتراض (1 من 2)
نشر في الحياة يوم 25 - 01 - 2016

لن تجد بين العرب والعجم إلا في ما ندر من يجاهر بنبذه للديموقراطية، فلا مصلحة فعلية لأحد ان يصرح بوقوفه ضدها او أن يعتبرها أمراً سلبياً مذموماً، حتى لو لم تكن تلك بالعمق قناعته. فأنت ترى على العكس العديد من التيارات السياسية التي لم تنشأ على حب الديموقراطية بات يجعل من إرسائها واحداً من أهدافه. رأينا بالأمس كيف أدخلها الماركسيون في أطروحاتهم وكيف راحت الأحزاب الشيوعية تدعو لها وتصور نفسها في عداد دعاتها. ورأينا القوميين بعد تحفظ عليها، او تجاهل لها، يدخلونها بأكثريتهم في صلب معتقداتهم المعلنة، ان لم يكن في صميم قناعاتهم المضمرة. ومع صعود تيارات الإسلام السياسي، على تنوعها الكبير، رأينا الفصيل منها تلو الآخر يتبناها، بل رأينا بعض تلك الفصائل ترجُمها فقهياً ثم تشترك بحماسة في الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً. فإن انت نظرت في مختلف مواقع الطيف الايديولوجي، أمكنك القول من دون كبير مبالغة ان من بقي خارج ذلك التوافق الواسع حول مزايا الديموقراطية يشكل أقلية، قد تكون حازمة في مواقفها او عالية الصوت في التعبير عنها، لكنها بالتأكيد لا تمثل أغلبية العاملين في الشأن العام من مدنيين او حتى من عسكريين، من علمانيين او حتى من دينيين، من يمينيين او حتى من يساريين، بل قد يكون التمسك، على الأقل اللفظي، بالديموقراطية من نقاط الاتفاق النادرة بين كل هذه التيارات التي لا تكاد تجمع على شيء قدر التقائها عليها.
إن كان هذا الالتقاء بهذا الاتساع، فما سبب ذلك الشعور المقيم في صدورنا بأن الديموقراطية في بلاد العرب يتيمة في بلاد العرب يتيمة لا أهل لها يتماهون معها ويذودون عنها ويناضلون في سبيلها، فينجحون في إقامة صروحها، ويقفون حاجزاً امام كل القوى التي قد تهدّدها؟ ذلك أن المسألة ليست مسألة تبنٍّ شكلي للديموقراطية بل مسألة اعتبار إقامة مؤسسات ديموقراطية هدفاً قائماً بنفسه يستحق ان نعمل في سبيله وان ندافع عنه ضد أيٍ كان يستهدف المساسَ به. وليست المسألة هي في قبول الاشتراك في الانتخابات، بل هي في العمل الدؤوب لحصول تلك الانتخابات فعلاً، وفي التأكد من نزاهتها، وفي احترامٍ مبدئيٍ لإجرائها في مواعيدها، وفي القبول المسبق بنتائجها مهما كانت، من دون ربطِ هذا التمسك بأي شرط آخر.
فأهل الديموقراطية الحقيقيون ليسوا كل أولئك الذين قد يجربونها كطريق للوصول الى السلطة، وقد يجرّبون أيضاً غيرها من الوسائل، بل هم أولئك الذين لا يهمهم بالضرورة الاستحواذ على السلطة بقدر اصرارهم على العيش في ظل نظام ينبثق من الشرعية الدستورية، ويقوم على مبدأ التداول السلمي للسلطة، ويضمن الحريات العامة على تنوعها، كما يضمن حقوق المعارضة بالتعبير عن نفسها وبتنظيم صفوفها. يعتبر اهل الديموقراطية الحقيقيون اذاً انها هدف لا وسيلة، وان الانتخاب الحر المفتوح لكل عناصر المجتمع الوطني مجرد أداة لتحقيقها. لكن اهل الديموقراطية قليلو العدد، هامشيو الموقع، ضعيفو التأثير، وهي أُعدمت بالتالي من يذود عنها ويستبسل في سبيلها، وهي عاشت في دنيا العرب، الى حد كبير، يتيمة.
لم يأت «عُسر التحوُّل الديموقراطي» من عدم. ويصعب علينا واقعاً ان نحاول فهم الفرصةِ التي افتتحها البوعزيزي في سيدي بوزيد (تونس) لسنوات خمس خلت، ولا الخيبةِ التي أُصبنا بها من ذبول الفرصة ومن هدرها المحتمل، ان لم نضعها في سياقٍ تاريخيٍ ما.
تذوق العرب في تاريخهم الحديث لحظاتٍ ليبراليةٍ متكررة مرت عليهم كالسحاب. فمن منهم كان يعيش في ظل السلطنة العثمانية لحقه بعض من طعمها حين ذهبت إسطنبول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مذهب الإصلاحات الدستورية مع تأمين قدر من التمثيل النيابي في «مجلس المبعوثان».
ولكن الولايات العربية كانت بعيدة جداً عن روحية «التنظيمات» العثمانية ولم يشترك الا عربي واحد (عراقي) في لجنة اعداد الدستور الأول سنة 1876، بل إن ما بقي لنا من تلك المرحلة يشي بقدر من التحفُّظ العربي على منحىً دستوري عثماني رأى فيه عرب عديدون مشروعاً مريباً لأوربة السلطنة ولتخليها الضمني عن شرعيتها الإسلامية، وهي شرعية كانت تروق للعرب إلى درجة أنهم لم يبدوا أي اعتراض يوم تخلّى السلطان عبد الحميد عن نزوته الدستورية وعاد الى تسلّط اسلافه. واطلع بعض المشرق على مسألة المشروطية الإيرانية وما رافقها مطلع القرن العشرين من محاولات، اشترك بها بعض رجال الدين، للحد من تسلط الأسرة القجارية، ولكن التجربة الإيرانية كانت بعيدة عنهم، باستثناء بعض اهتمام بين علماء النجف. وفي مصر عرف الناس شيئا منها حين ذهب الخديوي إسماعيل منحى تمثيل الشعب في «مجلس للمندوبين» سنة 1866 ولكن الخديوي ما فعل ذلك الا لأنه كان بحاجة لموافقة كبار الملاكين على جمع المزيد من الضرائب بينما ما انفك يعتبر سلطته مطلقةً، وكان من الصعب بالتالي ان يذكرها الجمهور المصري الا بالترابط مع النظام الضريبي الذي كان علّة وجودها، ومع ذكرى تدخلات الدائنين الأجانب الذين كانوا يدفعون بفظاظة لاعتماده.
وحدثت لحظة ليبرالية ثانية بعد الاستقلال، كان نموذجها تلك التي ارسى قواعدَها دستورُ عام 1923 في مصر.
ولكن حزب الوفد، الذي كان يفوز بالانتخابات في كل مرة أُجريت فيها وفق ذلك الدستور، لم يتسلم الحكومة فعلا الا لفترات متقطعة لم تدم أكثر من ثماني سنوات من أصل ثلاثين تفصل تاريخ اعتماد الدستور عن ثورة يوليو، مما كان يتناقض بوضوح مع روحية الملكية الدستورية والنظام البرلماني المعلن، لدرجة ان القاصي والداني فهم ان لا تأثير فعلياً للانتخابات، ولا لنتائجها، على حكم الخديوي او نفوذ الإنكليز. فأشاح المصريون النظر عن البرلمان وخواء ابهته (والشعور بالخواء الذي يسعى الضجيج المصطنع ان يخفيه عن الأبصار يعود بقوة هذه الايام بالذات وللمكان عينه) وراحوا يهتمون بمسلك الجيش او الاخوان المسلمين او حركة أحمد حسين، أي لأصناف المعارضة غير البرلمانية بوصفها أكثر تمثيلا لمشاعرهم، ولم يحزنوا كثيراً يوم وضع عبد الناصر حداً لتلك التجربة الملتبسة.
اما في العراق فرأى الحكم الاستقلالي الأول فائدة في استقدام الوجهاء الذين كانوا قد شاركوا في التجارب العثمانية المتقطّعة ليكتبوا دستوراً وقانوناً انتخابياً، وجرت فعلاً 16 دورة انتخابية خلال ال 33 عاماً من الحكم الملكي.
ولكن اشتراط بريطانيا فرض معاهدة دفاعية على العراق ذات وزن يفوق قوة الدستور لقاء مجرد قبول لندن بدستور، وتلاعب وجهاء المرحلة العثمانية وكبار الملاكين بنتائج الانتخابات بالتواطؤ مع القصر، واستعمال السلطة التشريعية المكشوف لتعزيز مصالح النخبة الحاكمة مالياً وعقارياً، كلها عناصر لم تجعل العراقيين يهبّون هبة رجل واحد يوم قاد عبد الكريم قاسم دباباته ليضع حدا للحكم الملكي وللتجربة البرلمانية الناقصة التي واكبته من 1925 الى 1958. ولم تكن التجارب المماثلة أفضل بكثير في دول أخرى كسورية.
ماض بلا حنين
لذلك، بعد قيام العسكر بتسلُّم السلطة في مختلف تلك البلدان، لم يبقَ من حنين لتلك اللحظات الملتبسة إلا في وسط أبناء وأحفاد الباشوات ووجهاء المدن والملاّكين الكبار الذين كانوا قد استفادوا من تلك الومضات، الجزئية في مضمونها، والعابرة في تزمينها، والذين سيقاسون لاحقاً من تهميشهم الاجتماعي وإفقارهم الاقتصادي على يد العسكر. وكان يصعب ان تجد عبر العقود المتأخرة من القرن العشرين شرائحَ واسعة تتذكر بقدر كاف من التماهي تلك التجارب شبه الديموقراطية. بل نجحت أنظمة الحزب الواحد، تلك التي قامت على أنقاض تلك التجارب، ناهيك عن الملكيات التي تمكنت من الثبات، من جعل تلك التجارب المتواضعة من المشاركة الشعبية أثراً بعد عين. يقول غي هيرميه في دراسته المرجعية عن الديموقراطية في اميركا اللاتينية ان مسلك «النخبة المؤسِّسة للنظام الديموقراطي» محوري لتثبيت مستقبلها. ولكن اهل الديموقراطية في مصر وسورية والعراق وغيرها من الدول العربية المستقلة حديثاً كانوا يؤلفون رهطاً صغيراً من الوجهاء الذين لم يروا في الديموقراطية الوليدة إلا سبيلاً لإشراكهم الدوني في السلطة وللاستفادة من فتاتها، بينما بدت علاقتهم بالديموقراطية كنظام سياسي متكامل في أحسن الأحوال ملتبسة، هذا عندما لم يقاربوها كمجرد تشبه خاوي المضمون ببعض ما عرفوه عن دول أوروبا. ولم يكن انتخاب الناس لهم يؤسس لزعاماتهم بقدر ما كان يؤكد وجودها في نظر منافسيهم من الوجهاء، كما بنظر أتباعهم من الناس.
وكان يصعب بالتالي أن يشعر هؤلاء المناصرون بنقصانٍ في حقوقهم او بتراجع في موقعهم حين انتهت اللحظة الليبرالية على يد ضابط طموح نجح انقلابُه، إذ جاءت أنظمة الحزب الواحد إجمالاً لتُحرّر الأتباع من ولائهم لوجيه محلي أو لزعيم طائفي أو لباشا تملّك جل الأراضي التي كانوا يعملون عليها. فمهما قلنا في تجبّر الأنظمة التسلطية التي قامت في النصف الثاني من القرن المنصرم، علينا أيضاً ان نعترف بأنها لم تكن وبالاً على الناس بل، على العكس، فقد استهوتهم شعبويتها التي بدت وكأنها تحرّرهم، فتركوا لأبناء وجهاء دمشق والموصل ودمنهور حزن تذكُّر «الماضي الجميل» بمفردهم بينما انخرطوا هم، وبحماسة، في الشعبوية الجديدة. لم تكن هذه الشعبوية تعدهم بالكثير في مجال الحريات او في مجال تداول السلطة، ولكنها كانت تفتح امامهم سبلاً للترقّي الاجتماعي لم يشعروا بوجودها يوماً في السابق، فأداروا ظهرهم لذلك الزمن الذي استمر احفاد وجهاء الأمس في التغنّي به، إذ لم يشعروا يوماً بأنهم فقدوا شيئاً ثميناً عندما اندثرت حقب من الديموقراطية المبتسرة، الجزئية، والشديدة النخبوية لتحل مكانها صنوف منوعة من عسكر واحزاب تسلطية.
لذا لم يكن أبناء جيلي شديدي التعلق بالديموقراطية. كانت رموز القومية العربية تتنافس في تهميشها ان لم يكن في نبذها لتلك الفكرة، بدءاً ببطلها الأول جمال عبد الناصر، مروراً بالنظامين البعثيين المتنافسين في كل من سورية والعراق، وانتهاء بكل الشلل الناشطة باسم القومية في أزقة بيروت او مقاهي القاهرة. وبدا تدريجياً ان قطيعة بدأت تتعمق بين معسكر ضم القوميين الكلاسيكيين وأنصار الإسلام السياسي، الذي قوي ساعده بعد انتصار الثورة الإيرانية واغتيال أنور السادات، والذي كان يعتبر طرح موضوع المشاركة السياسية، او نقد الاستبداد السياسي، نوعاً من الترف الفكري الذي غرسته دراستنا في الغرب في أذهاننا بينما يجب ان تبقى الأولوية المطلقة في اهتماماتنا للتحرر من الاحتلال الإسرائيلي او من هيمنة الغرب، ومعسكر آخر، أصغر بكثير، كان يعزو مصائب العرب المختلفة، من احتلال وهامشية واستتباع وتخلف، الى ضعف مؤسسات المشاركة السياسية في اوطاننا والى الاستبداد السياسي الذي كان يرسي بقسوته على المجتمعات المدنية العاجزة فيمنعها من لعب دورها المحوري في تقدم بلداننا وتحررها ورفاهيتها. ولقد حاولت السلطات المحلية والأحزاب القومية والتيارات الإسلامية، وهي واقعاً نجحت على الرغم من كل ما كان يفرّقها، جعل الثقافة السياسية الطاغية تعتبر مسألة المشاركة السياسية هامشيةً، او سابقةً لأوانها او حتى مجرد ايحاء خارجي. والارجح ان شيئاً ما عميق الجذور في ثقافتنا وفي تكويناتنا الانثروبولوجية سهّل هذا النجاح.
وأذكر ان «مركز دراسات الوحدة العربية» قرر تنظيم ندوة كبرى عن «الديموقراطية في العالم العربي» ولم يجد مكاناً آمناً للبحث فيها في مطلع الثمانينيات، إلا مدينة لارنكا القبرصية وغاب عنها عموم القوميين التقليديين الذين كانوا يدورون في فلك المركز. وحين دعاني الأمين العام ل «منتدى الفكر العربي» في عمان لإلقاء محاضرة أمام وزراء العدل المجتمعين هناك حول مسألة الشرعية الدستورية، كتبتها على ما أذكر في ثلاثة ايام وكان التفكير يسابق القلم، رأت السلطات الأردنية، لمّا اطلعت على النص، ان تمنع إلقاءه في تلك المناسبة فنشرتُهُ كتيّباً تحت عنوان «نحو عقد اجتماعي عربي جديد». ولم يكن اليسار التقليدي أكثر انشغالاً بالمسألة الديموقراطية، فبينما اعتبرها القوميون في مختلف مشاربهم نوعاً من الانحراف للثانوي على حساب الجوهري، كان اليسار التقليدي يعتبر الهم الديموقراطي نوعاً من السقوط في المنطق البورجوازي المتمسك بالديموقراطية بشكلياتها وحسب.
في شبابي كان لتحرير فلسطين أهل ولو راحوا يتناقصون غداة اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو، وكان للوحدة العربية أهل ولو ان تجاربها المتكررة انتهت الى فشل، وكان للاشتراكية أهل ولو ان انهيار الاتحاد السوفياتي وتحول الصين نحو نظام السوق سيصيبهم بالشلل والعقم، وكان لتطبيق الشريعة الإسلامية اهل ازدادت اعدادهم بصورة هائلة في العقود الأخيرة، ولكن اهل الديموقراطية، الساعين لها بما هي ولما هي، من دون ربطها بغيرها من الأهداف، ومن دون اعتبارها وسيلة بين أخرى لتسلق السلطة، فانهم بقوا قلة محدودة التقوا أحيانا في جمعيات هامشية لحقوق الانسان وفي أحزاب هزيلة محرومة من المد الجماهيري، او كانوا افرادا امتهنوا انتقاد التسلط والاستبداد من دون ان يلقوا الصدى المرجو بين مواطنيهم، هذا عندما لم تلاحقهم تهمة التشبه بالغرب والتماهي معه وتبني قيمه ومؤسساته على حساب التراث والأصالة والاستقلال.
الهزائم تقوّض الشرعية
ومر عقدان او ثلاثة وإذ بالأنظمة الشعبوية تصاب هي الأخرى بالوهن. تعددت الأسباب واختلفت الآراء حول أهمية كل واحد من تلك الأسباب. وان كان علينا الاعتراف بخصوصية كل حالة، فان بعض مسببات الوهن كانت عامة. فالهزائم العسكرية المتلاحقة قوضت الكثير من شرعية الأنظمة التي خاضتها ضد إسرائيل أساسا، ولكن في اليمن أيضاً، ناهيك عن الكويت. وعجزت الدول غير المحظوظة بعائدات الريع النفطي عن مواكبة التفجر السكاني الهائل الذي ضرب المجتمعات العربية من خلال الاستمرار بتوفير تقديمات اجتماعية مناسبة، كما عجزت عن فرملة الانتقال العشوائي المتفاقم نحو المدينة، وربما هي لم تحاول ذلك بالأساس. وتمركزت السلطة تدريجياً في ايدي نوع من الأسر الحاكمة داخل الأنظمة الجمهورية، فنشأ شعور انها باتت تتملك أجهزة الدولة وتسيطر على مصادر الاثراء السريع المواكب للاستحواذ على السلطة، وتوزّع المغانم على افراد اسرها وطائفتها ودُفعتها العسكرية وعلى مواليها من رجال الأعمال، مما عمم الشعور بأن الجمهوريات ليست أكثر اتاحة لفرص الترقي السياسي والاقتصادي من الملكيات الريعية. فغلب منطق النظام على منطق الدولة، وحلت مكان شعبوية الأمس نخبوية جديدة لا تخفي تميزها عن العوام، ولا جشعها في السعي إلى السلطة والثروة والوجاهة. وجاء صعود نجم الزوجات ليؤكد الشعور بنشأة السلالات الجديدة. ولاحقا مع بروز ظاهرة التوريث، شاع الشعور ان الاستحواذ الفئوي على الدولة قد وصل الى حد اعتبار الدولة مِلكاً خاصاً يورّثه الرئيس عشية رحيله، مثله مثل شقة او عقار او سيارة، مما فاقم طبعاً من تناثر شرعية تلك الأنظمة.
كان لا بد ان يعي الكثيرون هذا الوهن الضارب بالأنظمة العربية وجاء انهيار الاتحاد السوفياتي ليظهر ان النموذج الذي استلهمت منه جمهورياتنا بعضاً من مؤسساتها ومسالكها كان اقل قوة وثباتا مما كنا جميعا نعتقد، مما زاد من التفكير بإمكانية استبدالها في لحظة ليبرالية جديدة (ثالثة) بدت عناصرها وكأنها تتكامل تدريجيا، من وهن يضرب الأنظمة بالداخل، إلى تسارع الموجة الديموقراطية العالمية بالخارج، الى تفتح الأذهان على بدائل سياسية ممكنة بفضل انتشار الأقنية الفضائية وثورة المعلومات. لكن العقبات امام حصول تلك النقلة ما لبثت ان تراكمت وضاعت فرصة نادرة للحاق بركب الموجة الديموقراطية الواسعة التي واكبت سقوط جدار برلين. وأعود هنا إلى اوراقي من تلك المرحلة للتبيان على ذلك المزيج من الآمال والمعوقات التي واجهت الفكرة الديموقراطية بين العامين 1990 و2010 اي بين سقوط جدار برلين وما سيسمى ب»الربيع العربي».
انتخابات الجزائر مثالاً
بدأت تلك المرحلة عربياً بانتخابات الجزائر. ذهبت في محاضرة مطولة ألقيتها في «معهد العالم العربي» في باريس مطلع سنة 1990 الى الاستهزاء بالرعب السائد من اي تحركات مجتمعية وبوصفها شبه التلقائي بالفتنة. واذكر ان الصديق الراحل والشاعر الكبير محمود درويش، والذي كان يناصب الحركات الإسلامية العداء، اخذني جانباً بعد المحاضرة قائلاً: «الا تدرك يا غسان ان اي انتخاب في اي بلد عربي سيأتي بالإسلاميين الى السلطة؟ دعك من الديموقراطية ومنهم... ارجوك». لم يكن موقف محمود معزولاً وكان يطرح بالفعل سؤالاً أصبح محورياً بعد انتخابات الجزائر، وهو: هل نقدم على إجراء انتخابات إن كانت حظوظ أحزاب ليست ديموقراطية، لا في ايديولوجيتها، ولا في اصولها الفكرية، ولا في سبل تعبئتها، كبيرة بالفوز بها؟ كان البعض مثل محمود يفضلون ارجاء القضية الى أيام أخرى، بينما رأى آخرون ان المشاركة في الانتخابات لا ينبغي ان تُفتح امام الجميع ويجب بالذات الا يسمح للأحزاب الدينية ان تتبارى فيها. لكني، بعد تفكير طويل ومع تقبلي لآراء الآخرين، وجدت ان إلحاح الديموقراطية بات كبيراً لدرجة ان مخاطر فوز الإسلاميين بها تبقى اقل سلبية بكثير من تأجيل جديد لها، بل كنت اميل إلى ضرورة إشراك تلك الجماعات في الحياة السياسية، لا كخطر يحيق بإحلال الديموقراطية بل، على العكس، كشرط لحماية السلم الأهلي من التصدع. ولكن الأنظمة القائمة كانت على رأي مختلف، وهي راحت، لاسيما بعدما حصل في الجزائر، تؤلب العالم كله ضد دعاة الديموقراطية واصفة إياهم «بالسذج الذين لا يدرون ما يفعلون، اذ يعتقدون انهم يعملون في سبيل تأمين المشاركة السياسية بينما هم في الواقع يسهلون للإسلاميين استحواذهم على السلطة قبل ان يتحولوا هم بالذات الى اول ضحايا ذلك الاستحواذ»، وفق ما قال رئيس جمهورية عربية يوماً بحضوري.
كان الرد على هكذا مقولة ممكناً لو ان اهل الديموقراطية كانوا يشكلون يومها كثرة غالبة قادرة على اقناع الناس بأنهم ليسوا مجرد أولاد ساذجين بل كتلة شعبية قادرة لا على فرض الانتقال الديموقراطي وحسب، بل أيضا على منع خطفه لاحقا من قبل أي كان. وللدلالة على شعورنا يومها بغياب هذا الشرط الهام، أقتبس من حديث إذاعي في خريف 1991 قلت فيه: « بعد كل ما حصل في الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية واميركا اللاتينية وحتى في افريقيا السوداء، صح التساؤل عن احوالنا السياسية العربية: هل نحن ذاهبون بدورنا نحو صندوق الاقتراع نستمد منه شرعية مفتقدة، وتمثيلا حقيقياً لمطامح الناس ولتطلعاتهم، وتجديداً واسعاً في النخب السياسية الحاكمة، ام اننا مبقون على انظمتنا السياسية الهرمة وعلى صنوف التسلط والاستبداد التي عرفناها عقدا بعد عقد؟» واضفت:» المسألة ليست في الانظمة الحاكمة بقدر ما هي في المجتمعات نفسها. المسألة الاساس ليست في غياب الديموقراطية بل في خفوت الاصوات المطالبة بها. المسألة ليست في انعدام حرية التعبير بل في التعبير عن انعدام الحرية... المشكلة ليست في الحكومات الفاعلة بقدر ما هي في المجتمعات الساكنة، وليست في السلطات الظالمة بقدر ما هي في ذهن كل مظلوم ساكت». كان بعضنا يتطلع من دون جدوى إلى تحرك شعبي عربي مشابه لما حصل في اماكن اخرى في العالم وكنا نشعر بالخيبة. واذكر ان جلسة من جلسات الحوار العربي - الأوروبي كانت منعقدة في أحد قصور باريس في أواخر العام 1989 عندما قطع وزير خارجية فرنسا النقاش ليعلن سقوط الطاغية تشاوشسكو في رومانيا فصفق الأوروبيون فرحا بينما أصاب الوفود العربية وجوم شبه شامل.
من الشعور بغياب تلك الكتلة الفاعلة، نشأت فكرة كتاب «ديموقراطية بلا ديموقراطيين» وهي تنطلق من سؤال أساس عن احتمال قيام نظام من المشاركة السياسية في غياب قوى منظمة وفاعلة تطالب به. اجتمعت يومها ثلة من المختصين بالسياسة والمجتمع على اخذ العلم بعدم وجود قوى عربية كتلك التي كنا شهدنا في حالات أخرى من ساحة تيان ان مان في بيجينغ، الى شوارع بوخارست وبوينس ايريس، الى مدن اندونيسيا. وتساءلنا ما العمل لتجنب الوقوع في القنوط واليأس، فحاولنا البحث عن إمكانيات بزوغ مؤسسات ديموقراطية لا كنتاج تحرك شعبي ضد التسلط، وهو مفتقد، انما كحلول واقعية لمعضلات متفاقمة. فقد تنشأ الديموقراطية من حاجة الحكومات، في مصر مثلا او في المغرب، لفرض مزيد من الضرائب فلا تقدم على خطوة كهذه الا بعد تأمين رضى مجالس منتخبة لها تؤمن شرعنتها. وقد تنبثق شرارة من حاجة مجتمعات انهكتها الحروب الأهلية، كلبنان مثلا او السودان او اليمن آنذاك، الى ابتكار مكنزمات لتوزيع للسلطة على مختلف القوى الفئوية المتحاربة مع ادراكنا بأن أياً من تلك القوى ليست ديموقراطية الهوى. وقد نرى ثغرة واعدة في حاجة سلطات، كتلك التي قامت في الجزائر مثلا، لمصدر جديد للشرعية بعد تآكل شرعيتها التاريخية المستمدة من النضال في سبيل الاستقلال. كانت سوابق غير عربية تدفعنا صوب ذلك التفكير، لا سيما ان ديموقراطيات العالم لم تنشأ دوماً بفضل المطالبة بها، بل اجمالا كحلول واقعية لأزمات أصيبت بها الملكيات المطلقة. وان نُشر ذلك الكتاب بلغات عديدة وتحول الى مرجع في مجاله فالسبب لا يعود فقط لتألق الأكاديميين الذين أسهموا بذلك الاختبار الذهني، وانما اساسا لطغيان الشعور المحبط بيتم الديموقراطية، وبالتالي بضرورة تصور سيناريوات بديلة للفوز بها كنتاج لسيرورات اقتصادية واجتماعية وأمنية لا تشترط بالضرورة توفر قوى فاعلة تعمل لها.
* أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس. والنص محاضرة ألقاها في مؤتمر «خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحوّل الديموقراطي ومآلاته» الذي نظمه الأسبوع الماضي في الجامعة الأميركية في بيروت، «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» بالتعاون مع «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات».
* غداً حلقة ثانية أخيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.