يتيح مرور عام على تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي السلطة، فرصة لتأمل مسار التطور السياسي في مصر بعد ثورة 25 يناير، وتعثر محاولة بناء نظام ديموقراطي كان الحلم به في مقدم العوامل التي أدت إليها. بدأ هذا التعثر فور إطاحة حسني مبارك ونظامه التسلطي. فقد أدى إصرار المجلس العسكري على إجراء انتخابات برلمانية قبل وضع دستور جديد، إلى انزلاق المجتمع في نفق استقطاب ديني – مدني رسخ ثقافة الإقصاء ورفض الآخر. وكانت محاولة جماعة «الإخوان» إعادة إنتاج النظام التسلطي عقب الانتخابات الرئاسية الحرة الأولى عام 2012، إحدى نتائج هذا الاستقطاب، وأحد أسباب تفاقمه في آن واحد. غير أن فشل تلك المحاولة لم يفتح الباب أمام الديموقراطية المتعثرة. فقد ظهر الأثر الفادح لتشتت القوى الديموقراطية وضعف أداء قادتها وخيالهم، وانعدام ثقتهم بمبادئهم. وأُضيف إلى أجواء الاستقطاب موجة عنف وحالة إقصاء تتوسعان حتى اليوم. فقد أنتج الصدام بين السلطة الجديدة وأنصار السلطة المعزولة عنفاً متنوعاً في أشكاله ومستويات حدّته. كما خلقت الأحادية السياسية الجديدة حالة إقصاء لا تقتصر على المختلفين، بل تشمل رموزاً ومجموعات سياسية يُفترض أنها جزء لا يتجزأ من «معسكر» السلطة القائمة، بل من دائرتها المباشرة. لكن مشاركتها غير مرغوبة لأنها قد تخلق مراكز قوة سياسية متعددة في الوقت الذي يتشكل نظام ذو مركز واحد. فقد أصبح الوضع مهيأ لبناء نظام أحادي يغلب عليه هذه المرة النمط الشعبوي أكثر من ذاك التسلطي. فهناك ثلاثة أنماط رئيسية للنظام السياسي الأحادي يجمعها الاعتماد على دور محوري لرأس السلطة التنفيذية، لكنها تختلف في كثير من تفاصيلها، وهي التسلطية والشمولية والشعبوية. وتؤدي الصعوبات التي تواجه التحول الديموقراطي إلى انتقال من أحد هذه الأنماط إلى غيره عندما يحدث تغيير ما. فعلى سبيل المثل، تحول بعض النظم الاشتراكية الشمولية التي انهارت في نهاية الثمانينات إلى نظم تسلطية، ولكن في صورة تعددية من خلال ديكتاتورية الغالبية. وشهدت مصر خلال العقود الستة الأخيرة انتقالاً، في هذا الإطار الأحادي، من نظام كان مزيجاً من الشمولية والشعبوية إلى نظام تسلطي في صورة تعددية (ديكورية) إلى أن اندلعت ثورة 25 يناير. وفي ظل تعثر الديموقراطية بعد هذه الثورة، تتبلور الآن حالة يمكن أن تؤدي إلى نظام شعبوي صار وجوده نادراً في هذا العصر. لذلك، يجد بعض خبراء النظم السياسية في ما يحدث في مصر حالة مثيرة ومدهشة، إذ تبحث قطاعات من المجتمع عن خلاصها لدى سلطة قوية يمكن الوثوق بها والثقة بقدرتها على إنقاذ البلاد، بعد أن كان حلم تلك القطاعات بالحرية بلغ عنان السماء قبل 4 سنوات فقط. وهذه هي الحالة النمطية للشعبوية Populism التي تختلف عن الشمولية Totalitarianism والتسلطية Authoritarianism في أنها لا تعتمد على حزب حاكم يحتكر المجال العام السياسي والاجتماعي أو يهيمن عليه. فالنظام الشعبوي، في أبسط تعريف له، يختزل الشعب في كتلة واحدة صمَّاء، ويدمج أفراده في إرادة علوية، ويسعى إلى علاقة مباشرة معه من دون حاجة إلى مؤسسات وسيطة من أي نوع. وتنطوي الشعبوية في كثير من تجلياتها على أبوية سياسية ومجتمعية عبر خطاب يعبر عن احتضان الفئات الاجتماعية كلها على ما بينها من تناقضات، والوقوف على مسافة متساوية منها، في الوقت الذي تنحاز السياسات العامة إلى الأقوى والأكثر ثراء بينها. ولا يعتمد النظام الشعبوي في هذا السياق على تنظيم سياسي أو حزب حاكم، ولا يرى قيمة لأحزاب موجودة قبله وتريد أن تضع نفسها في خدمته وتعرض عليه أن تمثل ظهيراً له، بل يعتمد ما يُطلق عليه «الظهير الشعبي». فلا يجد النظام الشعبوي حاجة إلى أي مؤسسة وسيطة سياسية أو مجتمعية، بل يعتقد أنها تعطّله أو تعوّقه. لذلك، تواجه الأحزاب صعوبة في التعامل مع الحالة الجديدة في مصر، وتبدو مرتبكة، بل حائرة إزاء موقف النظام السلبي تجاهها على رغم أن معظمها يؤيده. فهي لا تدرك بعد طبيعة النظام الشعبوي الذي لا يرى مبرراً لوجودها ويطالبها من وقت إلى آخر بأن تتوحد (أي تكف عن أن تكون أحزاباً سياسية لا مجال لها في غياب التعددية). فمن سمات الشعبوية أن يكون «الكل في واحد» ولكن من دون حزب واحد، وأن «يتوحد» الجميع و «يندمجوا» و «يتحالفوا»، حيث تبدو هذه المعاني المتعددة كما لو أنها مترادفات. وتزداد هذه النزعة إلى «التوحيد» كلما احتدمت المعارك التي يخوضها أي نظام شعبوي في الداخل أو الخارج. غير أن هذه النزعة تصطدم بعدم قابلية الناس للتنميط والقولبة لوقت طويل في هذا العصر مهما بلغ تعلق قطاع واسع منهم بسلطة يراهنون عليها. لذلك، يبدو النظام الشعبوي الأبعد بين أنماط النظم الأحادية عن العصر الراهن. فهو أقرب إلى نظام إدارة منه إلى نظام سياسي. ولعل أهم المعضلات التي تواجه الشعبوية حين توجد خارج عصرها هي كيفية إدارة العلاقة المباشرة مع «الشعب»، ومدى قدرتها على التقاط الإشارات المقبلة من أجيال جديدة لا تستسيغ قطاعات متزايدة منها أن تعيش داخل جلباب الحاكم، أو تصطف في طابوره لفترة طويلة. وهي لا تستوعب، كما في مصر مثلاً، مغزى كتم أصواتها المتعددة تحت شعار مواجهة إرهاب تدرك أن التنوع هو السبيل إلى هزيمته، وليس الاصطفاف لترديد الشعارات وإطلاق الصيحات. لذلك، يبدو بزوغ نظام شعبوي في مصر الآن حالة نادرة في هذا العصر تطرح على خبراء النظم السياسية المقارنة أسئلة عن مغزى ظهور هذا النوع من النظم مجدداً، في الوقت الذي يقترب النظام الشمولي من الاختفاء، ويتوسل النظام التسلطي أشكالاً تعددية لإعادة إنتاج نفسه سعياً للبقاء في عدد أكبر من الدول. نقلا عن الشرق الاوسط