في الوقت الحاضر، يصعب على الكومبيوتر أن يتعرّف الى وجه لأحد الأفراد في الأوضاع كافة، إلا إذا «دُرّب» على يد مُبرمِج محترف لأداء تلك المهمة. هناك عوامل كثيرة تتدخّل في صورة الوجه، ما يصنع فوارق في مظهره في الصور. وهناك «رباعيّة» أساسيّة تصنع فوارق في صور الوجوه: العمر، ووضعية التصوير، وتفاوتات الإضاءة، والتعابير التي تكون مرتسمة على الوجه لحظة التقاط الصورة. وفي السنة المنصرمة، أحدثت شركة «فايسبوك» اختراقاً علميّاً أساسيّاً في ذلك المشهد، لكنه إنجاز أثار قلقاً عارماً لدى أوساط جمهور الإنترنت، خصوصاً المهتمين بالخصوصيّة والحريّة الشخصيّة على ال «ويب». ولقراءة ذلك الإنجاز، يجب التدقيق بما يجري خلف الحدائق المحيطة بالمقر الرئيسي لشركة «فايسبوك» في كاليفورنيا. وهناك، تعمل بصمت مجموعة من اختصاصيي الكومبيوتر ممن لا يسلمّون بأن تلك «الرباعية» تمثّل عائقاً فعليّاً أمام قدرة التقنية الرقميّة في التعرّف الى الوجوه. بالأحرى، يعتقد أولئك الخبراء العاملون في «فايسبوك»، بأن التقنية الرقميّة تستطيع تقليد عين الإنسان في تمكّنها من ملاحظة هوية الوجه، حتى لو رأت مجرد جزء منه. التنقيب البصري يجمع ذلك النفر من الخبراء مقارباتهم لصنع نظام تقني متطوّر في التعرّف الى الوجوه، يسمى «نظام الوجه العميق» Deep Face System. وتذكيراً، ظهرت تقنية التعرّف إلى الوجه منذ قرابة عقدين، وتوّلت شركة «إنتل» تطويره بقوّة، بل إنها توصّلت قبل أقل من عشر سنوات إلى نظام للتفتيش في أشرطة الفيديو، سمّته نظام «التنقيب في الأشرطة المرئيّة - المسموعة» Audio- Visual Mining. ومنذ انطلاقتها، تعتمد شبكة «فايسبوك» على نظام التعرّف إلى الوجه الذي يمكّن من التعرّف الى صور متشابهة لصورة أصيلة يعتمدها ذلك النظام. وفي العام المنصرم، أثار نظام التأشير، بمعنى وضع تعريف إلكتروني («تاغ» Tag) على الصور التي تظهر فيها وجوه الأفراد، في الصور كافة، من دون طلب إذن لا من صاحب الصورة الأصلية ولا من ذلك الشخص في صورة مشتركة معه. وحينها، أثار وضع ال «تاغ» على الصور نقاشات قادتها مجموعات الحفاظ على الخصوصيّة الفردية والحرية الشخصيّة على الإنترنت، خصوصاً في الدول الغربيّة. ولكن، لم يصل ذلك الحراك إلى نتيجة ملموسة في ممارسات شبكة «فايسبوك». ويبدو أن الخبراء العاملين خلف حدائق «فايسبوك»، ربما يزيدون الأمر احتداماً عبر اعتزامهم تطوير النظام الحالي للتعرّف إلى الوجه، كي يصل إلى «نظام الوجه العميق»، وربما انتقل ذلك النظام ذاته بسرعة إلى مرحلة يصبح فيها مطبّقاً على اشرطة الفيديو أيضاً، ما يكفل إثارة مشاكل ونقاشات أشد احتداماً، لا لسبب أقل من أنها تضع المسمار الأخير في نعش خصوصيّة الأفراد على الإنترنت. وفي عالم يتزايد فيه ثقل النقاش الأمني، خصوصاً عبر اتصاله بالإرهاب وبالحرية الفردية في ظل عالم تتزايد مستويات الإرهاب فيه، من المرجح أن تصل تلك الأمور إلى أمدية شديدة الحساسيّة. الجمهور مدداً لانتهاك الخصوصيّة تدرّب مجموعة خبراء «فايسبوك» كومبيوتراتها في شكل عملي. ويتولى الجمهور إمدادها بما يلزم كي تنتهك... خصوصيّة ذلك الجمهور! كيف؟ يكفي القول إن جمهور «فايسبوك» يضخّ يوميّاً قرابة 400 مليون صورة ثابتة لوجوه مستخدمي «فايسبوك» الذين وصل عددهم إلى قرابة 1.3 بليون شخص، ما يقارب سدس البشرية كلها! ومع قاعدة بذلك الاتساع، تنفتح مساحات واسعة أمام تدريب الكومبيوترات على التعرّف إلى العلاقات بين الصور التي يضعها الأفراد لوجوههم في مناسبات مختلفة، بل إنها تلتقط في ظروف شديدة التفاوت. النتيجة؟ هناك قاعدة واسعة للتدرّب على التعرّف الى الوجه ذاته في كل الأوضاع التي يعيشها في الحياة اليوميّة. بالنظر إلى كثافة المعطيات، ليس غريباً أن يبدي مهندس الكومبيوتر يانن لي تشون، وهو يقود فريق صنع «نظام الوجه العميق»، تفاؤله بقرب انجاز ذلك النظام في صورته النهائية خلال العام الحالي. ويصرّ تشون الذي تخرّج في «جامعة مدينة نيويورك» ويقود قسم الذكاء الاصطناعي في «فايسبوك»، على أن «نظام الوجه العميق» لا ينتهك خصوصيّة الأفراد وحرياتهم. ويستند في ذلك، وفق ما ورد في غير مقابلة مع الإعلام الأميركي، الى أن «فايسبوك» تعتزم إعطاء الأفراد الحق في تغطية وجوههم في الصور التي تكتشف فيها وجوههم. هل تبدو حجة كافية؟ ألم يجرب الجمهور حججاً مماثلة مع معلوماته وبياناته التي يفترض أنها محمية في الخوادم الضخمة للشركات العملاقة في المعلوماتية، ولم يحل ذلك دون الوصول إليها وسرقتها والاتجار بها، إضافة إلى تسليمها طوعاً إلى جهات أمنيّة في مقدّمتها «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة؟ هل ستنهمر الوجوه المنكشفة على الإنترنت، عندما يهجر أحد الاختصاصيين مشروع «الوجه العميق» ل «فايسبوك»، على غرار ما فعل خبير المعلوماتية إدوارد سنودن عندما هجر «وكالة الأمن القومي» ومشروعها للتجسّس الإلكتروني الشامل على الكرة الأرضيّة وسكانها؟