ليس اللبناني نديم قبيسي شاباً غرّاً مأخوذاً بصرعة رائجة في عوالم الكومبيوتر. الأحرى أنه شاب منخرط في معركة الحرية الإلكترونية، التي يخوض غمارها كثيرون من شباب عصر الانترنت. لا يجب التطلّع الى البعيد لمعرفة هذا الأمر. يكفي التأمل في مجريات «الربيع العربي» الذي خاضته أجيال شابة عبر الانترنت، كي تناهض قمعاً مديداً على شعوبها، فلقيت مساندة من مجموعات إلكترونية شابة متنوّعة المشارب، يندرج معظمها ضمن ظاهرة ال «هاكرز» Hackers، على غرار مجموعة «أنينوموس» Anonymous (مجهولون) التي راج رمزها - قناع «غاي فووكس» Guy Fawkes Mask، الذي يسمى أيضاً «قناع فِنديتا» Vendetta- على وجوه شباب مصر وتونس أثناء ثورتي الياسمين والغضب. على رغم صغر سنه، يحمل قبيسي (21 سنة) درجتين جامعيتين في علم النفس وبرمجة الكومبيوتر من الجامعة الأميركية في بيروت، كما يتابع دراسة أكاديمية متقدّمة في علوم الكومبيوتر في جامعة «كونكورديا» في مدينة مونتريال بكندا، حيث استقر الحال بأسرته اللبنانية قبل بضعة أعوام. وابتدأ نشاطه في تحدي نُظُم الكومبيوتر واختراقها عندما كان مراهقاً في بيروت، فاستدعته أجهزة لبنانية غير مرّة للتحقيق معه. ومع انتقاله الى كندا، تبلورت عنده الصورة الكبيرة للصراع من أجل الحرية الالكترونيه. وبدأب وتواضع، صنع برنامجاً اسمه «كريبتو كات» Crypto Cat (قطة التشفير)، بهدف حماية الحرية الشخصية للمتحاورين عبر الشبكة الإلكترونية الدولية. بقول آخر، يؤمّن «كريبتو كات» حماية للشخص أثناء حواره مع طرف ثانٍ عبر الانترنت، بطريقة تمنع نظم التنصّت على الانترنت (وضمنها تلك التي تستعملها الحكومات والشركات العملاقة)، من الدخول على هذا الحوار. ومن ميّزات هذا النظام أنه سهل الاستخدام، ولا يحتاج الى تعمّق في تقنيات الكومبيوتر والانترنت، ويستطيع التعامل مع برامج الدردشة المختلفة مثل «غوغل شات» و «فايسبوك شات» وغيرهما. وابتكر قبيسي مع مجموعة صغيرة من أصدقائه، هذا البرنامج باستخدام المصادر المفتوحة («أوبن سورس» Open Source)، وجعله متاحاً بصورة مجانية على الانترنت. أداة لثورات «الربيع العربي» الارجح أن برنامج «كريبتو كات» جاء في لحظة ملائمة عربياً، إذ يشكو كثيرون من المنخرطين في «الربيع العربي» من قدرة الدول على اختراق مواقع الدردشة والحوار على الانترنت. وظهر هذا الأمر في سورية على نحو بارز. ويستطيع «كريبتو كات» أن يحمي جمهوراً سورياً واسعاً من ضربات ما يُسمى «الجيش السوري الالكتروني»، الذي استطاع ان يخترق التنصّت على الحوارات الالكترونية، إضافة إلى أنه وجّه ضربات مؤذية الى مواقع أقنية مثل «الجزيرة» و «العربية» على الانترنت. ولأنه جزء من معركة الحرية الالكترونية التي اندلعت قبل قرابة 3 عقود (أنظر «الحياة» في 20 تموز-يوليو 2012)، يستند «كريبتو كات» الى إرث فكري وتقني من برامج حماية خصوصية الأفراد على الإنترنت، ومنها برنامج «بريتي غود برايفسي» Pretty Good Privacy (خصوصية معقولة وجيدة). وفي مطلع التسعينات، استطاع أستاذ جامعي أميركي في علوم الكومبيوتر، إسمه فيل زيمرمان، أن يصنع برنامجاً لحماية الحوار بين طرفين يتحادثان عبر الانترنت. واستخدم طريقة تقنية تحاكي التشفير المستعمل لضمان وصول البريد الالكتروني الى شخص محدد دون سواه. وفي الإيميل، يجري هذا الأمر باستخدام «مفتاحين»، أحدهما «عام» والآخر «شخصي». ويحمل البريد المفتاح الشخصي مترافقاً مع عنوان البريد الالكتروني، ويستعمل حاسوب المستخدم المفتاح العام، للوصول الى محتوى البريد. وعمل زيمرمان على قسمة المفتاح العام الى شطرين. وعند الحوار، يرسل الشخص نصف هذا المفتاح الى من يريد الحديث معه، فلا تستطيع أي جهة الدخول الى «خط» الحوار، لأن تشفيره متوزّع بين طرفي الحوار. يطلق على هذه التقنية اسم التشفير المستند الى المفتاح العام «بابليك كي إنكريبتايشن» Public Key Encryptation. وحينها، مُنِعَ زيمرمان من نشر برنامجه، من قِبل حكومة الولاياتالمتحدة التي استندت الى قانون يعطيها الحق في فرض أن تنال «فتحة دخول» الى برامج التشفير المصنوعة على الأراضي الأميركية، بل على أراضي الدول التي ترتبط مع أميركا بمعاهدات تبادل المجرمين. وبقول آخر، تستطيع أميركا فرض هذا الشرط على معظم المبرمجين عالمياً. أوقف زيمرمان برنامجه، لأنه لم يُرِد أن يُعط الحكومة مدخلاً لبرنامجه الموجّه لحماية الناس من تدخّل الحكومات. لكنه لم ييأس. وسرعان ما اكتشف أن سويسرا لا تربطها معاهدة تبادل مجرمين مع الولاياتالمتحدة. وسافر زيمرمان الى سويسرا. وهناك، صنع برنامج «بريتي غود برايفسي» لحماية المتحدثين عبر الانترنت، وأطلقه عام 1996. وتعرّض هذا البرنامج لمضايقات من أنواع متعددة. العودة الى قبيسي ربما يجدر التوقّف عند هذه النقطة في تاريخ برنامج «بريتي غود برايفسي»، لأن بقية التفاصيل تحتاج الى مقالات اخرى. وسُجّل لزيمرمان أنه حقّق اختراقاً قوياً في صنع برامج تستطيع حماية الخصوصية على الانترنت. والأرجح أن هذه النقطة بالتحديد تعود بالحديث الى اللبناني قبيسي. وفي أحاديث لصحف أميركية، أشار قبيسي الى وجود شبه بين «كريبتو كات» وبين برامج اخرى في تشفير الحوار عبر الانترنت، خصوصاً برنامج «أوف ذي ريكورد» Off The Record، واختصاراً «أو تي آر» OTR. وبيّن قبيسي أن أهم ما يميّز برنامجه هو قدرته على توفير الحماية للحوار بين مجموعة تتراوح بين عشرة أشخاص وعشرين شخصاً، على الإنترنت. بقول آخر، يستطيع برنامج قبيسي حماية غرفة حوار كاملة على الشبكة الالكترونية الدولية. ولا يزال برنامجه في مراحله التجريبية. وتعرّض للكثير من الملاحقة والمضايقة من قبل السلطات الأمنية الأميركية، خصوصاً عندما يزور أراضي الولاياتالمتحدة، بسبب برنامج «كريبتو كات». ولعل أمر حصول السلطات الحكومية الأميركية على منفذ الى هذا البرنامج، الذي أقرّ كثيرون من الاختصاصيين بقدراته في حماية الخصوصية الرقمية للأفراد، ما زال غير محسوم لحد الآن. وزاد في تعقيد علاقة قبيسي مع السلطات الأمنية الأميركية أن أعرب عن تضامنه القوي، كالكثير ممن ينتمون الى ظاهرة ال «هاكرز» الشبابية، مع جوليان أسانج، مؤسس موقع «ويكيليكس»، بعد أن دفع الأخير الى الانترنت بوثائق من أرشيفي البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية وبعض الجهات الاخرى. وفي شكله المستعمل حاضراً، يتوافر برنامج «كريبتو كات» بصورة مجانية وتجريبية، كما صنع منه قبيسي نسخة تتوافق مع تقنية «أندرويد» Android، ما يجعله قابلاً للاستعمال بسهولة من قبل جمهور واسع من مستخدمي أجهزة «زووم تابلت» و «غلاكسي تابلت» و «كيندل فاير» وغيرها من أجهزة اللوح الذكية والخليويات المتقدمة. وفي صفحته على «فايسبوك»، وضع قبيسي تفاصيل كثيرة عن برنامجه، ومدخلاً للتنزيله مجانياً، وقسماً لجمع الآراء بصدده، إضافة الى معلومات شخصية عن صانع هذا البرنامج. وعلى «يوتيوب»، يوجد شريط فيديو يظهر قبيسي متحدّثاً في تجمّع لل«هاكرز» رعاه محرّك البحث «غوغل».