لمع نجم المخرج السينمائي الفرنسي هوبير فيال Hubert Viel في العام 2013 بفضل فيلمه الروائي الطويل الأول «أرتيميس» الذي يتناول موضوع السذاجة عند النساء على أساس أنها موروثة منذ عهد الإغريق ولا علاج لها اطلاقاً. ويمزج الفيلم بذكاء بين الرومانسية والفكاهة، الأمر الذي جلب له التقدير وبالتالي على الموزعين الدوليين. وها هو فيال يكرر نجاحه بعمل جديد عنوانه «الفتيات في العصور الوسطى» يروي فيه أسطورة تبدو وكأنها من تأليفه الشخصي- رغم نفيه هذا الاحتمال كلياً - وترغب في أن العصور الوسطى لم تكن تسودها البربرية ولا يعم فيها الجهل، كما أن المرأة فيها لم تكن مسخرة في خدمة الرجل بل باتت موضع احترام وتقدير وساهمت في إنشاء العديد من المستشفيات وقادت حركات أدت إلى تطور العقليات وتحسين الظروف المعيشية، وأنها لعبت دوراً مهماً في القرارات السياسية. وكي يحكي قصته تخيل فيال الألف ليلة وليلة لكن بطريقة عكسية، أي ان رجلاً متقدماً جداً في السن يجلس مع مجموعة من الأطفال متصفحاً أمامهم المجلد المعنون «الفتيات في العصور الوسطى» وراوياً لهم مضمون هذه الصفحات وكأنه شهرزاد من الجنس الخشن. ويؤدي الأطفال كل المشاهد التي تدور في العصور الوسطى، والبالغ الوحيد بينهم هو الشيخ الذي لا يظهر فوق الشاشة إلا في اللقطات المعاصرة. الفيلم مصور بالألوان طالما أن أحداثه تدور في الزمن الحالي، ويتحول في غمضة عين إلى الأبيض والأسود فور انتقال الأبطال إلى العصور الوسطى، كما أن حجم الصورة يتحول من السينما - سكوب العريض إلى المربع الضيق تأقلماً مع الفترة الزمنية المعنية. التقت «الحياة» هوبير فيال في باريس قبل نزول الفيلم إلى الصالات في نهاية الشهر الجاري، وحاورته. فيلمك لا يشبه غيره، وهذا بطبيعة الحال ميزة لكن أيضاً موضع حيرة، بما أنه يصعب تصنيفه. من أين أتت فكرته أساساً؟ - كلامك صحيح، وأنا أعرف أن الموزعين كانوا في حيرة من أمرهم وبالتالي لم يتهافتوا عليه قبل أن يتأكدوا من رواجه الجماهيري في المهرجانات العديدة التي استقبلته وأولها «كان» 2015 حيث عرض في مسابقة «أسيد» الهامشية مسبباً ضحك المتفرجين ولكن هازاً مشاعرهم من ناحية ثانية. وأنا الآن أتلقى العروض الدورية الخاصة بتقديمه في بلدان من القارات الخمس، ما يدل على أن المجازفة تأتي بنتائج إذا تجرأ المرء وخاض التجربة. ورداً على سؤالك في شأن فكرة الفيلم، فهي أتتني إثر إطلاعي على مقال في جريدة ينتقد كاتبه سياسة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، لافتاً إلى أن الاشتراكيين في العصور الوسطى كانوا يتصرفون بأسلوب متفوق من حيث الإنصاف والذكاء بالمقارنة بما يفعله هولاند. ولم يتوقف الصحافي إياه عند هذا الحد، بل راح يذكر عناوين المراجع التي سمحت له بالتعبير عما سماه «حقيقة لا جدال فيها». لقد ضحكت في بادىء الأمر، لكن فضولي الطبيعي دفعني إلى التفتيش في المكتبات عن الكتب المذكورة في المقال، ووجدتها بالفعل تروي حقائق العصور الوسطى، وبينها الوضع الذي تميزت به المرأة، مثل حقها في التعليم وفي ممارسة الطب واستحقاق المناصب الوزارية والمشاركة الفعالة في حياة البلد. وكانت المرأة في كثير من الأوقات ترتدي الزِّي الرجالي من أجل ممارسة مثل هذه النشاطات. وكل كتاب قرأته أوصلني إلى غيره، علماً أنني ركزت اهتمامي في شكل خاص على المرأة نظراً إلى كل ما هو متداول بخصوص عبوديتها المزعومة في العصور الوسطى. وهكذا ولدت في رأسي فكرة سيناريو الفيلم وألّفت حكاية مشكّلة من حقائق أخذتها من هذا الكتاب أو ذاك وزوّدتها بحبكات مرحة بحيث لا تبدو وثائقية، فلم أرغب في تقديم عمل مثير للملل أو منتم إلى اللون التاريخي الثقافي. معنى ذلك أن حكاية فيلمك ليست من تأليفك البحت؟ - الحكاية في حد ذاتها ليست من تأليفي أبداً، لكن الحلة من ابتكاري الشخصي من الألف إلى الياء. ساسة وفرسان لماذا منحت بطولة الفيلم إلى مجموعة من الأطفال؟ - هذا شيء يدخل في إطار الحلّة التي ذكرتها للتوّ. لقد تخيلت شهرزاد وأساطير «ألف ليلة وليلة» التي أعشقها والتي قرأت ترجمتها الفرنسية عشرات المرات. وبدوري رحت أروي الحكايات من خلال مجلد يتصفّحه رجل كبير في السن ويسرد تفاصيله على مجموعة من الصغار. وكلما بدأ في حكاية جديدة انتقل المتفرج إلى زمنها وعاشها من خلال ما يؤديه الأطفال، وهم متنكرون في أشكال بالغين من رجال دين وساسة وفرسان وسيدات مجتمع وطبيبات ووزيرات وفلاحات وعاملات وربّات بيوت وغير ذلك من أشياء تخص الكبار. لقد وجدت الفكرة طريفة ومسلية أكثر ألف مرة مما كان في الإمكان إنجازه مع ممثلين بالغين. لماذا؟ - بفضل سذاجة الصغار وإنطلاقهم في الأداء وفي معايشة الأحداث من دون تخطيط مسبق ومن دون التفكير في الزاوية السينمائية المثالية لالتقاط وجوههم مثلاً، أو في تفاصيل الماكياج وتسريحة الشعر. أن البالغين متعبون فوق «بلاتوهات» التصوير، بينما يأتي عنفوان الشبان بنضرة تحول الفيلم إلى شيء مرح ونشط مهما تضمّن من عيوب صغيرة بسبب قلة الإمكانات المادية التي عانينا منها. هل كان من السهل إدارة الأطفال؟ - لم أواجه صعوبات محددة كبيرة في إدارتهم، بينما كان الأصعب اختيارهم أساساً. التقيت أكثر من 300 صبي وصبية على مدار ثلاثة شهور قبل أن أختار ستة منهم، ثلاثة من كل جنس. فكان عليهم حسن الأداء والتمتع بذاكرة قوية نظراً إلى طول النصوص المفروضة على كل شخصية، وعدم التأهب أمام الكاميرا والتميز بقابلية للعمل الجماعي. وبعد تخطي كل المراحل المذكورة بدأنا في التصوير ودارت الأمور على ما يرام. أصوات الطيور منحت شخصية الشيخ، أي «شهرزاد» الرجالي، إلى مايكل لونسدال، أحد عمالقة المسرح الفرنسي وعمره فوق الثمانين، فكيف تأقلم هذا الرجل مع زملائه الصغار؟ - بقيت فترة طويلة قبل بدء التصوير أستعد للقاء الأول بين لونسدال والأطفال، وزال اضطرابي بعد الدقائق العشر الأولى من اللقاء، بما أنه راح يسرد عليهم حكايات شبابه ويقلّد لهم أصوات بعض الحيوانات والطيور، وهم من ناحيتهم كانوا يحيطون به ويطلبون منه المزيد ويسألونه عشرات الأسئلة، غير أن بعضهم كان قد شاهده في السينما. لقد وجدت صعوبة في وضع حد لهذا الوفاق تلبية لمصلحة العمل. هل كان الصغار على دراية بطبيعة العمل السينمائي؟ - هناك صبيّة هي مالون ليفونا سبق لها الظهور في أفلام قبل فيلمي، أما سائر الأطفال فقد خاضوا هنا أول تجربة لهم أمام الكاميرا، ونحن صوّرنا في العطلة الصيفية، الأمر الذي سمح بتدريبهم على يد مجموعة من محترفي تعليم الصغار التأقلم مع الأداء السينمائي. أنت تدافع عبر فيلمك عن حقوق المرأة، أليس كذلك؟ - لم أنجز فيلماً سياسياً بالمرة، لكنني سعيت إلى التعديل في صورة الوضع الخاص بالمرأة في زمن يعتقده الكثير أكثر من متخلف. وما رأيك في وضع المرأة الحالي؟ - أنا لست من أنصاره، على الأقل في حلته الراهنة، لأنه مبني على الزيف والأوهام أكثر من أي شيء أخر. وتدعو حركات تحرير المرأة اليوم إلى هدم كل ما مضى بحجة أنه من صنع الرجل لمصلحة الرجل، ويدل هذا التفكير على الجهل التام بحقيقة ما كان عليه وضع المرأة في كثير من الفترات الزمنية السابقة لعصرنا الحالي. أنا ضد التطرّف ولا أعتقد أنه يأتي بنتائج مجزية لا للمرأة ولا للرجل. من هم أساتذتك في السينما؟ -كل أساتذة الموجة المسماة جديدة في زمن الستينات من القرن الماضي، أي جان لوك غودار وفرانسوا تروفو وجاك ريفيت ثم روبرتو روسلليني في إيطاليا. هل تتردد كثيراً إلى السينما؟ - لا، فأنا لا أميل إلى مشاهدة الأفلام الحالية وأفضّل التأثر بالموسيقى والقراءة والمعارض الفنية.