هل نستمر في ممارسة طقوسنا عند توديع عام واستقبال آخر؟ هل نقوم بجردة حساب لما جرى في العام الفائت لكي نتوقّع ما يمكن أن يأتي به العام المقبل؟ مثل هذه العادة فقدت معناها، ليس فقط لأننا اصبحنا منذ سنوات نأمل بأن يكون العام الجديد أقل سوءاً من سابقه، بل لأن ما يحصل يفوق التوقعات سوءاً وتردّياً. فقبل سنوات تحدثنا عن مأزق العالم، فإذا به يصبح مأزقاً خانقاً. وقبل عامين كتبنا، عندما ودّعنا العام الآفل، بأنه كان «عام الإرهاب» بامتياز. وعندما حصلت في باريس المجزرة التي استهدفت صحيفة «شارلي إيبدو»، في مطلع كانون الثاني (يناير) المنصرم، قيل إن فرنسا تشهد ايلولها، على غرار ايلول (سبتمبر) الأميركي عام 2001، ولكن، وقبل أن ينتهي العام، شهدت باريس ذاتها سلسلة من الاعتداءات الإرهابية، كانت بمثابة حرب حقيقية تستهدف امن فرنسا وقيَمها وثقافتها. هكذا لم تعد الكلمات تفي بالتشخيص والتوصيف، فكيف بالتوقع والتقدير. هذا ما يحدث في العالم العربي الذي بلغ أدنى دركاته تردياً واضطراباً وعنفاً، بعد أن اجتاح الإرهاب النفوس ولغّم العقول، وبعد أن انفجرت الحروب الأهلية لتفكّك الدول وتمزّق المجتمعات شرّ ممزّق، بإحالتها إلى مجموعة عصبيات عمياء متنابذة متناحرة. من كان يتوقّع أن الإرهاب سيزداد فتكاً وشراسةً عما كان عليه قبل خمسة عشر عاماً؟ ومن كان يتخيّل قبل عقود أن يشهد العالم العربي هذه البربرية التي لا سابق لها؟ من كان يتوقّع، بعد التحرّر من العهود الاستعمارية، بأن الدول الغربية ستعود إلى البلاد العربية لتردع العرب بعضهم عن بعض؟ يا لسخرية القدر وسوء العاقبة! من كان يتصوّر أن قادة محور المقاومة والممانعة يعلنون من طهران أن أربع عواصم عربية سقطت في منطقة نفوذهم، وأن بغداد هي عاصمة إمبراطوريتهم؟ يا لها من مقاومة تتحوّل إلى احتلال! من كان يتصوّر أن بلداً كلبنان، كان يسمّى سويسرا الشرق، اضطرّ، بعد أن طمرت النفايات عاصمته، إلى ترحيلها إلى الخارج، ولكن مدفوعة الثمن من خزينة الدولة وجهد اللبنانيين؟ الإرهاب يصنعنا لو توقفّنا عند النشاط الإرهابي نجد بأنه بلغ أعلى مراحله، بتحوّله من منظمات متخفّية وخلايا نائمة إلى دولة لها أرضها وجيشها ولها مؤسساتها وقوانينها. لذا فقد ازداد قوة وانتشاراً لكي يقتل ويدمّر ويبثّ الرعب، في غير بلد وغير قارة، مستخدماً عند كل هجمة أساليب جديدة في ممارسة العنف في شكله الفاحش والعدمي. ومن السذاجة الاعتقاد بأن تحالفاً يضم عشرات الدول يعجز، بطائراته وصواريخه وأساطيله، عن هزيمة المنظمات الإرهابية. اذا تعدينا الإعلانات والخطابات، إلى ما وراءها، نجد أن الدول الفاعلة تعلن شيئاً وتفعل عكسه. قد يكون بعضها عاجزاً، ولكن، كل الدول الفاعلة لها ضلع في ما يجري، لأن لكلٍّ منها علاقتها الملتبسة والمزدوجة مع الإرهاب، إذ هي تقف ضده في مكان وتسكت عليه أو تفيد منه في مكان آخر. وهذا شاهد على أن ما صنعناه قد تجاوزنا وارتدّ علينا ليتحكّم بنا. المسرح والملعب إذا كان العالم العربي أصبح مصنع الإرهاب ومصدره، فلم يكن ينقصه لكي يجمع الشرَّ من مصدريه أو بابَيْه، سوى أن يتحوّل إلى مسرح للحروب الأهلية وملعب للقوى الإقليمية والدولية. هنا أيضاً حدث ما لم يكن في الحسبان، فبعد تحرّر البلدان العربية من الهيمنة الأجنبية، أملاً بقيام دول حديثة ومجتمعات متطوّرة، وقعت تلك البلدان في فخ الأنظمة الاستبدادية التي أطاحت المكتسب الديموقراطي الناشئ، الذي ورثته عن عهود الاستعمار، والذي كان يحتاج إلى التطوير والتحسين. وكانت الحصيلة قيام دول أمنية تحكم بواسطة أجهزة الاستخبارات، الأمر الذي قوّض مفهوم المواطنة وألغى هامش الحرية، بقدر ما حال دون بناء دولة القانون والمؤسسات. ولما انفجرت الثورات العربية في خريف العام 2010، مطالبة بالتغيير الذي طالما تأخر، قياساً على ما جرى في سائر بلدان العالم، جوبهت التظاهرات السلمية الحاشدة بالشعار الإرهابي الجهنمي: أنا أو لا أحد، أنا أو الحرب الأهلية، باختصار: أنا أو الموت والخراب. بذلك انتقل العربيّ من نير الاستعمار إلى كابوس الأنظمة الاستبدادية، ومن جحيم الحروب الأهلية إلى همجية المنظمات الإرهابية، لكي تحصد البلدان العربية كل هذه المقابر والحرائق والخرائب. الثالوث المخّرب نهاية حقبة ما بعد الاستعمار على اختلاف شعاراتها وعناوينها، هي نهاية يكتبها سقوط المشاريع الإيديولوجية الثلاثة: القومي واليساري والإسلامي. فأصحاب المشروع القومي دمّروا فكرة الوحدة، لأنهم حكموا بعقل طائفي، فئوي، نيروني، لا يتسع لتوحيد حي في مدينة. لذا فقد ترجموا كلّ الشعارات التي رفعوها بضدّها. لقد أرادوا استرجاع فلسطين فدمّروا سورية وفتكوا بشعبها وهجّروا أهلها. أما اليساريون فقد خرّبوا فكرة العدالة والتقدم، لأنهم حاولوا تطبيق أفكار ونماذج يجهلون مآلاتها السلبية المجتمعية والسياسية، لكي يشهدوا بذلك على جهلهم بأنفسهم وبالواقع. وإلا كيف نفسّر أن «الرفاق» الاشتراكيين في اليمن الجنوبي قد اقتتلوا في ما بينهم، عندما تسلّموا السلطة قبل عقود، وكانت الضحية آلاف القتلى في أيام معدودة؟ أما الإسلاميون فقد استجمعوا مساوئ الجميع، لأن ما كان يحرّك الجميع، ولا يزال، هو جوع عتيق للسلطة يتغذى من ارث استبدادي عريق، بقدر ما يحركه مخيال فقير، متخلف، أسطوري، فاشي، عنصري. لذا كانت الحصيلة السقوط المريع في الاستحقاقات الحضارية المتعلقة بالديموقراطية والمعرفة أو بالعدالة والتنمية. الارتداد والانتقام لا مجال بعد الآن للتسترّ على الأعطال والآفات، باجترار المعزوفة القائلة إن ما تمارسه المنظمات الإسلامية من تطرّف وعنف، هو منافٍ لديننا وقيمنا وتقاليدنا. ما يحصل هو نابع من صميم الثقافة الدينية. ومع ذلك لا أقول إنه مرض من أمراض الاجتماع الإسلامي، بل هو ترجمة للثقافة الإسلامية في شكلها الأكثر انغلاقاً وتعصّباً والأكثر تطرّفاً وجذريّة، ولا عجب أن تكون الثمرة السيئة هي ممارسة الهويّة بصورة نرجسية عدوانية، على سبيل الاستكبار وتنزيه الذات لأبلسة الآخر، باتهامه وتكفيره وإلغائه، الرمزي أو الجسدي. وهذا هو مآل الفكرة الأصولية الرامية إلى تطبيق الشريعة والعمل بأحكام الدين، على أساس ثنائية حاسمة ونهائية تقسم الناس إلى فسطاطين: الأول يمثله حراس الإيمان وشرطة الإسلام، لدى هذا الحزب الإسلامي أو ذاك التنظيم الجهادي، في مقابل الآخرين الذين يمثلون أهل البدعة والضلالة والنفاق أو أهل الكفر والشرك والشر المحض. فإن كان هؤلاء مسلمين وجبت إعادتهم إلى حظيرة الإسلام، فإن لم يذعنوا يقاتلون بوصفهم مرتدّين. أما إن كانوا غير مسلمين، فالأولى مقاتلتهم بوصفهم كفاراً، أو غزوهم في ديارهم، كما تشهد الغزوات الجهادية من غزوة نيويورك إلى غزوة باريس الأخيرة. هذا المشروع الأصولي الذي لا يترجم إلا على سبيل الاستئصال للمختلف والآخر، يفضح ما مارسه الدعاة وقادة الأحزاب الإسلامية من الخداع والزيف. فقد أفنى هؤلاء الشطر الأكبر من حياتهم السياسية يدعون إلى إقامة دولة الخلافة لتطبيق الشريعة وأسلمة الحياة بكل وجوهها، بالارتداد على كل المنجزات التي شهدتها الحضارة الإسلامية، والانتقام من كل ما هو حديث وراهن. وكانت حصيلة الأسلمة إنتاج الكوارث وصناعة الموت، كما آلت إليه مشاريع العمل الديني على اختلاف نسخها وعناوينها. لكن بعضهم، وبعد أن أخفق مشروعه المستحيل والمدمّر، صار من دعاة الاعتدال والتسامح، بل صار يقبل بالديموقراطية والمجتمع المدني، بعد أن كان ضدّ المنظومة الحداثية بكل عناوينها. هذا فيما يفترض فيهم أن يقوموا بمراجعة نقدية لمشاريعهم، بحيث يقتنعون بأن الاجتماع الديني لم يعد يصلح في هذا الزمن كمشروع خلاص ونمط حياة، ومن باب أولى أن لا يصلح كعنوان حضاري أو برنامج سياسي أو نظام حقوقي. ولذا ليست المسألة أن نخلّص الإسلام من جهادييه الذين قبضوا عليه وصادروه أو اختطفوه، كما يقول بسذاجة بعض الغيارى على الإسلام أو الجاهلين بأصوله. إن الإسلام ليس واحداً. هناك إسلام هو رأسمال رمزي يتجسد في جملة من القيم كالتعارف والتكافل أو التقى والتواضع، وسواها من القيم الجامعة التي تتيح خلق مساحات للتقارب والتحاور أو للشراكة والتبادل بين المسلمين أنفسهم، أو بينهم وبين بقية سائر الديانات والفلسفات. هذا الإسلام، الذي لا يهتم به الدعاة والجهاديون، لأنهم لا يحسنون سوى انتهاكه، هو ما يمكن استعادته تأويلاً وتحويلاً وتطويراً، لإدراجه في منظومة القيم الحديثة والعالمية، وعلى النحو الذي يتيح صنع حياة حديثة وراهنة، كما يفعل سائر خلق الله، بالتحرّر من عقد المماهاة الخاوية والمستحيلة مع الأصول. هناك في المقابل الخلافة البائدة والسلطة القابضة والفتوى القاتلة. هذا الذي يمارسه السلفيون والجهاديون، لا ينتج إلا ما تشكو منه المجتمعات الإسلامية من الفقر والتخلّف أو العنف والتقهقر. ولذا فالمطلوب تفكيكه والتحرّر منه، أو إرجاعه إلى حجمه كفاعلية من فاعليات المجتمع، بحيث يعمل أهله تحت سقف الدولة، ويخضعون للقوانين والأنظمة الحديثة والمدنية. من غير ذلك نتعامى عن الحقائق ونقفز فوق الوقائع، لكي نمارس النفاق أو نشهد على جهلنا بالإسلام وبالعالم والعصر، ونعيد إنتاج الأزمات في شكلها الأسوأ أو الأخطر والأرهب.