كان عام قلب الأوضاع رأساً على عقب، وفي أقوال أخرى اعتدال الأوضاع من العقب إلى الرأس. وكان عام ترسيخ أقدام خبراء الأستراتيجيا واختصاصيي العسكرية وأساتذة التكتيك وعتاولة التكنيك. كما كان عام توزيع أنواط الوطنية على هؤلاء وسلبها من أولئك والتلويح بخطر الفضح ومغبة التشهير على أسس تلفزيونية بحتة. وهو عام صناعة النجوم على الهواء مباشرة، ومهاجمة الرموز، ومعاداة الدمى، ومراعاة الأمن القومي، وحماية السلم الاجتماعي. كان عام انتهاء الدور الترفيهي الترويحي التوعوي المعلوماتي للشاشات، وإعلانها دولة مستقلة وإن لم تكن حرة، وإمارة تبايع هذا مرة وهؤلاء مرات، وذلك وفق التوجهات وربما التوجيهات. «لدينا توجيهات لإشاعة جو من التفاؤل» أو «التأكيد على الروح الوطنية» أو «عدم الانسياق وراء الانهزامية» أو «رفض الإذعان لتسخين الحلقات وتأجيج المناقشات» حيث إن «حالة البلد لا تتحمل». جمل شبيهة ترددت في غرف الإعداد وفواصل الإعلانات طيلة عام مضى. تسأل أحدهم: «توجيهات ممن؟» أو «من أجل ماذا؟» أو «بأي صيغة؟» يأتي الرد مراوغاً مماطلاً: «ليست توجيهات لكنها توجهات تتسلل إلينا ونشعر بها فننفذها». تنفيذ الشاشات المصرية، الخاص منها والرسمي، توجهات يصنفها بعضهم تحت بند «الأولويات الوطنية» وينعتها آخرون ب«الانصياعات الانهزامية» ويعتبرها فريق عريض من القواعد العريضة للمشاهدين غير المسيسين المنزوعي الأيديولوجيات التفريقية والتوجهات الانقسامية كان سمة بارزة من سمات الفضائيات في العام 2015. إنه العام الخامس بعد ثورة يناير والتي خلفت قطاعاً عريضاً من المشاهدين واقعاً في حيرة من أمره عما جرى في مصر وما يجري فيها، وقطاعاً أعرض لم يعد مهتماً أصلاً بمعرفة ما جرى، بل يكفيه السعي وراء تحليل لخبر عن منافذ تموينية هنا، أو تفسير لارتفاع أسعار تذاكر هناك، أو على أقصى تقدير شرح لضربة عسكرية هنا أو هجمة جوية هناك. شتان بين المشاهد المصري المثبت أمام الشاشات على مدى السنوات التي تلت الثورة، والمشاهد نفسه المثبت أمامها اليوم بعدما تغيرت أولوياته وتبدلت أهواؤه وتغيرت متطلباته وبات قادراً على انتقاء نجمه الفضائي وإخضاعه لاختبارات عدة. بعدها يتم تنصيبه ملك الشاشات أو يجري تهميشه واعتباره ورقة محروقة وأكذوبة مفضوحة. لم يعد المشاهد المصري لقمة سائغة أو كياناً مسلوب الإرادة جالساً على أريكته بلا حراك. المشاهد المصري في العام 2015 أعلن نفسه رئيس جمهورية نفسه. فلا نسب مشاهدة أعلنتها شركة كذا تبهره، أو دراسات البرنامج الأكثر انتشاراً تدهشه. يشاهد هذا وذاك، وإن شعر بأنه كذاب أو منافق أو يبذل جهداً ليبدو مختلفاً في زمن عزّ فيه الاختلاف أو منتقداً في سنة شح فيها الانتقاد أو معارضاً في عام فضائي اتسم بالصوت شبه الواحد والتوجه شبه الواحد والاتفاق غير المعلن من قبل الجميع على طرفي الشاشة على أن «البلد لم يعد يتحمل انشقاقات أو تحزبات أو تشكيكات». وطنية المذيع المشككون في وطنية المذيع الفلاني أو أغراض المذيع العلاني صاروا سمة من سمات العام الفضائي المنصرم. فبعدما تخصص ثوريون في سن قوائم سود من أعداء ثورة يناير من نجوم الفضائيات، وهي القوائم التي أقنعت كثيرين، بات كثيرون اليوم هم صانعو القوائم ولكن استناداً إلى مشاعر المشاهد الفطرية غير الخاضعة لاستبيانات الأكثر مشاهدة أو استقصاءات الأعلى انتشاراً. وإذا كانت شهرة هذا المذيع أو ذاك ميزة اقتنصها المشاهد وأعلن ملكيته الحصرية لها، فإن انتشاراً من نوع آخر أفلت من بين يديه على مدار العام المنصرم. إنه انتشار الضيوف الإستراتيجيين والمنظّرين العسكريين والخبراء التكتيكيين الذين تسللت جيوشهم الجرارة وغزوا الشاشات المصرية من كل فج عميق. فقد وجد المشاهد نفسه منجماً - أي صانع النجوم الضيوف. وبينما تلملم 2015 أشياءها للرحيل تحمل في سجل إنجازاتها صناعة نجوم من الضيوف، منهم من قفز على مقعد المذيع، ومنهم من فاز بمقعد تحت قبلة البرلمان بعدما كان ظهوره المتكرر بطاقة تعارف لكل بيت مصري به شاشة فضية. فضية الشاشة لم تشفع لنجومها فوضويتهم المهنية التي كانت سمة من سمات العام المنصرم. فعلى رغم أن عام 2015 ربما شهد العدد الأكبر من ندوات ومؤتمرات وورش عمل وطاولات بعضها مستدير وبعضها الآخر مستطيل عن ضرورة وضع ميثاق شرف إعلامي أو الالتزام بمعايير عمل سلوكية، إلا أنه كذلك كان العام الأكثر تميزاً بمعارك كلامية وتراشقات لفظية واتهامات على الهواء مباشرة بين المذيعين وبعضهم بعضاً. وجد المشاهد نفسه مجبراً على أن يكون طرفاً في مشادة بين مذيعين تجري رحاها على الهواء مباشرة لأسباب لا تمت بصلة للوطن أو المواطنين الوطنيين منهم وغير الوطنيين. وحيث إن فزاعة «الوطنية» كانت الأعلى استخداماً بهدف التهديد والوعيد في معارك الهواء، فقد قررت قاعدة عريضة من المشاهدين أن تضع تعريفاً مغايراً للوطنية بناء على المشاهدة. «تحت السيطرة» مشاهدة الدراما التلفزيونية لم تعد تحتل مكانة بارزة في حياة المصريين، ولكن يبقى شهر رمضان استثناء للقاعدة مهما كانت ظروف القلاقل ومهما بلغت تهديدات الأحداث. وهذا العام بزغ مسلسل «تحت السيطرة» ليلقبه بعضهم ب «عمل وطني» حقيقي! المسلسل الذي جسد بطولته كل من نيللي كريم وهاني عادل وظافر العابدين تعرض لكارثة الإدمان وحلول المعافاة بين الطبقة المتوسطة والراقية في شكل واقعي وغير مسبوق وبعيداً من عوامل الجذب التجارية المعتادة. وكانت النتيجة تكريم وحلقات نقاش لأبطال المسلسل ما جعله عملاً وطنياً لا يستقطب تيارات بعينها أو يستبعد توجهات من دون غيرها، بل تعرية هم من هموم الوطن يجعل الجميع سواء. وبدافع الوطنية أيضاً - التي يمكن اعتبارها صكاً من الصكوك الشعبية التي كانت حكراً على الشاشات حتى عام فات - وجدت «أبلة فاهيتا نفسها في موقف لا تحسد عليه». فبعدما حطمت الأرقام القياسية بأغنيتها الشهيرة عقب فوز الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي بالرئاسة «معلش ياكارولينا هما أربع سنين»، ثم تعاونها مع باسم يوسف وقت كان برنامجه يحقق أعلى نسب مشاهدة، تعرضت لنكسة كبرى. ففي العام 2013 أشاع أحدهم أن «أبلة فاهيتا» ترسل رموزاً كودية وتتخابر مع جهات معادية عبر كلمات تتفوه بها في برامجها، وهو ما تم بثه على الهواء مباشرة في برامج توك شو تصور بعضهم إنها على سبيل الدعابة فإذ بها فقرة جديدة. وهذا العام عادت «أبلة فاهيتا» ببرنامج خاص بها، إلا أنه لم يحظ بالجماهيرية ذاتها وذلك بدافع «صكوك الوطنية» التي ضن بها مشاهدون عليها، أو لشعور بالملل تسرب إلى نفوس آخرين كرهوا السياسة ومقتوا السخرية السياسية وباتوا يتوقون إلى أي نوع من أنواع الاستقرار، وإن كان على جثة «أبلة فاهيتا». ومن «أبلة فاهيتا» الباكية على أطلال الشعبية إلى ميكروفون «الجزيرة» الذي حوله المشاهدون مع نهايات العام رمزاً للشر أمام «البطل المغوار» وزير الخارجية المصري سامح شكري الذي ألقى به أسفل الطاولة قبل بدء مؤتمر صحافي يأبى عام 2015 أن يرحل قبل أن يؤكد أن المشاهد المصري لم يعد متلقياً يذعن لاستبيانات أو يرضخ لنجوم توك شو، بل بات هو المحرك. أما تقويم التحرك فيبقى قيد التحليل، ربما في 2016، أو كما يقول أحدهم: «تظهر فضائيات وتختفي أخرى. ويسطع نجوم توك شو ويُحرق آخرون. المهم أن تبقى الأوضاع تحت السيطرة». وحين سئل عن المقصود ب «تحت السيطرة»، رد بذكاء: «أقصد المسلسل»!