سنوات من الإهمال والتداعي، ظلت فيها الريشات الخشب لطاحونة حدائق المنتزه الأثرية تحاول الحركة والدوران بمساعدة تيار هوائي بارد آتٍ من رياح بحرية شمالية، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل، فالريشات العتيقة المتهالكة لم تقوَ على الحركة اللهم إلا بعض لفات متثاقلة قامت بها ريشة أو اثنتان على الأكثر. دار الزمن دورته وها هي ريشات الطاحونة الأثرية التي أنشأها محمد علي عام 1804، تعود إلى رونقها وقوتها مستعيدةً كثيراً من ملامحها التي شوهها الزمن بتقلباته والمناخ بعوامل التعرية والرطوبة والبشر بالإهمال والتجاهل. فقد نفذت منطقة آثار الإسكندرية والساحل الشمالي خطة متكاملة لترميم الطاحونة وتطويرها تمهيداً لفتحها للزيارة مطلع السنة المقبلة. وقام اختصاصيون في الترميم الدقيق مع الإشراف الأثري، بأعمال التأهيل والصيانة والترميم للطاحونة التي تقع على يمين المدخل الرئيس لحدائق قصر المنتزه. وشمل العمل أدوات الطحن الخشبية الأثرية في الداخل والخارج، كذلك أعمال المعالجة اللازمة وتعقيم الأخشاب وسد الفجوات للحفاظ على أدوات الطحن الداخلية القديمة. تتكون الطاحونة من بدن أسطواني من الحجر الجيري، تعلوه طاقية خشبية على شكل مخروطي. وفي البدن نوافذ صغيرة للتهوئة والإنارة، وفي أعلاه مروحة تتكوّن من ثماني ريشات. ويمكن الوصول إلى داخل الطاحونة عبر مدخل معقود بعقد نصف دائري. ويشغلها من الداخل سلم حلزوني شبه دائري عدد درجاته 37، ملتحم بجدارها. ويقوم السلم على أكتاف بنائية ملتصقة بجسم الطاحونة من الداخل، ويؤدي السلم إلى غرفة علوية أرضيتها خشبية تحتوي على أدوات الطحن من مروحة خارجية وتروس داخلية والقادوس وقرصي الرحى ومخر الدقيق وذراع التحكم بدرجة نعومة الطحين. لم يتبق من محتويات الطاحونة التي يزيد عمرها على القرنين سوى أربع كتل من خشب تأخذ شكل مربع والطاقية الخشبية. وكانت الطاحونة قد خضعت لعملية ترميم خاطئة لم تتم على أسس علمية، فكُسيَ بدنها بكسوة من البياض الخارجي (محارة حديثة) وطُليت باللون الأصفر، وهذا ما استدعى إعادة الترميم حتى تعود الطاحونة إلى الحالة الأولى زمن الإنشاء. وقال مدير إدارة الآثار الإسلامية والقبطية في الإسكندرية محمد متولي ل «الحياة» إن في المدينة 46 أثراً إسلامياً وقبطياً أشهرها قلعة قايتباي، الناضورة، الحقاينة، مسرح سيد درويش، مبنى أتيلييه الإسكندرية، متحف المجوهرات، الطابية الحمراء، طابية كوسا باشا، طاحونة المنتزه، طاحونة المندرة، والحوض الجاف (مكان لإصلاح السفن) غرب الإسكندرية. يذكر أن محمد علي والي مصر (1805 - 1848) أمر بإنشاء عشرات المطاحن بطول مصر «المحروسة»، رفعاً لمعاناة الشعب الذي كان يتكبد مشقة بالغة في الطحن بطواحين الدواب فأمر عام 1832 بإنشاء طواحين تعمل بطاقة الرياح لتغطي احتياجات الشعب والجيش من الدقيق. وبني العديد من الطواحين في القاهرة ورشيد وإدكو ودمياط . أما الإسكندرية فبنيت فيها عشرات الطواحين على المرتفعات والسواحل للاستفادة من طاقة الرياح وتكون بعيدة عن المناطق السكنية نظراً إلى صدور أصوات عالية جداً عند دورانها. وانتشر بناء طواحين الهواء بطول خط الساحل في الإسكندرية من منطقة المندرة والمنتزه وسيدي بشر حتى المكس والدخيلة، حتى أصبحت تتجاور في ما بينها. عقب استخدام الماكينات الحديثة وإنشاء طواحين هوائية بتوربينات أو مولّدات رياح، تم تجاهل طواحين الهواء القديمة في الإسكندرية، ومع الإهمال وزيادة تأثير العوامل المناخية وبازدياد الرطوبة وعوامل التعرية اختفت الطواحين تماماً ولم يتبق منها سوى اثنتين إحداهما في المنتزه، وما زالت تحتفظ بجزء من رونقها بينما الثانية وهي طاحونة المندرة التي فقدت أدوات الطحن الداخلية والمروحة الخارجية.