خريف 2015 قلب الموازين في منطقة الشرق الأوسط، والتدخُّل العسكري الروسي المباشر في سورية، مع كل ما تبعه من تبدّلات أنذر بتغيير معادلة الصراعات على المستوى الإقليمي والتدخُّلات الخارجية في المنطقة. وإذا أمكن اختصار العام 2015 بالنسبة الى السياسة الروسية، فإن الأبرز هو الانغماس الروسي في سورية، ومحاولات فرض «امر واقع جديد» يقلب المعادلات التي ظلت سائدة في هذه المنطقة منذ ربع قرن، تحديداً منذ التدخل العسكري الأميركي المباشر في العراق. هكذا يختصر الروس أحداث عام حافل بالتطورات، لكن شريحة مهمة من المفكّرين وخبراء السياسة بدأت مع حلول نهاية العام طرح أسئلة تتعلق بمستقبل هذا الوجود، وهل ستجد روسيا ذاتها غارقة في مستنقع افغانستان الجديدة؟... خصوصاً مع اقتراب مهلة المئة يوم التي طُرحت بداية الحملة العسكرية، من الانقضاء من دون ان يتحقّق «التحوّل الكبير» المطلوب على الصعيد الميداني؟ ام ان روسيا ستكتفي بالإنجازات السياسية التي حققتها وتبدأ مرحلة الانسحاب التدريجي بأقل الخسائر؟ لم يبدُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متردداً في الإجابة عن بعض الأسئلة الحساسة، كما بدا خلال مؤتمره الصحافي السنوي هذا العام. عبارات مثل «لا اعرف» أو «سنرى» تكرّرت أكثر من مرة، وبعدها شرح مطوّل، خلافاً لما اعتاد عليه الروس من ثقة الرئيس وعباراته القصيرة الحازمة في الإجابة عن الأسئلة. يقول بعضهم ان ذلك المشهد عكس ارتباك المشهد السياسي الروسي، بسبب زيادة سخونة الملفات المعقّدة داخل روسيا وحولها إلى درجة أن الرئيس القادر على الإجابة عن اكثر الأسئلة صعوبة، على مدار خمس ساعات متواصلة، كما فعل في السنوات الماضية، اختصر مؤتمره الصحافي فجأة بعد مرور ثلاث ساعات وودّع الحاضرين بقوله ان «الحديث لا ينتهي ولكن يجب قطعه». آخرون يؤكدون ان السبب ليس في الارتباك، بل في تعدُّد الخيارات المطروحة امام روسيا في ملفات عدة، ما يدفع الكرملين الى إبقاء باب المناورة مفتوحاً في عدد منها. وعادة يشكو الخبراء المقرّبون من الكرملين من نقص في الرؤية الإستراتيجية لما تريده روسيا في مناطق من العالم، مع امتلاكها قدرة استثنائية على تحقيق اختراقات وقفزات تكتيكية مهمة، تسعى لاحقاً الى توظيفها. هذا ما طبع سياستها في سورية. اقتحمت روسيا باندفاعتها الكبرى هناك «دوري الدرجة الأولى» في السياسة العالمية، وفق تعبير رئيس مركز السياسة والدفاع فيودور لوكيانوف المقرب من الكرملين، بمعنى انها «استعارت» صفة «شرطي العالم» التي حافظت عليها الولاياتالمتحدة ربع قرن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. أصبحت الحملة الروسية في سورية بمثابة نقطة فارقة في التغيُّرات المستمرة في السياسة العالمية، لأنها شطبت معادلة الحروب «باسم السلام» التي تقودها الولاياتالمتحدة فقط بدعم من حلفائها، أما موسكو التي بدأت العملية العسكرية في سورية، فغيّرت توزُّع القوى وآفاق حل النزاعات الدولية البارزة. النقطة الثانية التي يطرحها الخبير لا تقل اهمية. فهو يرى ان النزاع في سورية أنهى مرحلة الموقف «الإنساني- الإيديولوجي» من تسوية الأزمات المحلية. فالنقاشات في شأن النزاعات الداخلية حول الحاكم المتّهم بارتكاب جرائم ضد شعبه وقمع الاحتجاجات بعنف، وأنه كان يصنف في فئة « فاقدي الشرعية»، ولا يمكن السماح بحوار معه، اصطدمت بتطورات الموقف في سورية. وبعدما كانت وظائف «شرطي العالم»، اخذت مع «الحق في معاقبة المعتدي كما في العراق عام 1991»، واتسعت لتضيف الانتقام من الأنظمة التي خالفت حقوق الإنسان، الى درجة إطاحتها، جاء الحدث السوري ليُظهر ان هذا السيناريو ليس حتمياً. ويربط الخبراء هذا التحوُّل في السياسة العالمية ليس فقط بتصرفات روسيا، بل كذلك بوصول المواقف السابقة التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الى طريق مسدود في كثير من الأحيان. لكن السؤال الذي يطرحه كثيرون منهم: ما الذي سنفعله بهذا الوضع الجديد في العالم؟ ثمة اقتناع بأن زيادة وزن روسيا في المعادلة الدولية، كما ظهر بوضوح في سورية، وضعتها أمام لعبة خطرة تسعى فيها إلى مهمة ذات مستويات ثلاثة: أولاً ضمان وجودها الجيوسياسي في سورية بصرف النظر عن شكل السلطة هناك. وعدم قطع العلاقات التي تربطها بإيران، فهي شريك إقليمي مهم جداً، ثم عدم التحوُّل إلى قوة عظمى ترعى مصالح بلدان ذات وزن إقليمي مثل ايران. ويعتبر كثيرون ان موسكو باتت تواجه «أخطاراً جدية» بينها احتمال ان تكون مضطرة لتمديد وجودها العسكري في سورية زمناً طويلاً. وهذا واحد من الأسئلة التي ردّ عليها بوتين بعبارة: لا أعرف! قبل أن يستدرك: «لا أميل الى هذا الرأي ولكن سنرى». يُعد هذا الموضوع واحداً من الأمثلة التقليدية المطروحة الآن، لإبراز غياب الرؤية الإستراتيجية أو على الأقل الخطة «ب» لدى الكرملين. أما النتائج التي تحقّقت حتى الآن فهي واضحة، لأن الحضور العسكري الروسي الفعلي في سورية زاد بمقدارٍ مهم، حظوظ النظام في البقاء، وقلّل في المقابل إلى الحد الأدنى احتمالات تدخُّل بلدان أخرى عسكرياً ضد نظام الرئيس بشار الأسد. والأهم انه دفع الى إضعاف نظرية التدخُّل العسكري لحل الأزمات الإقليمية عموماً. بهذه الأوراق القوية، تقف موسكو أمام خيارات كلها صعبة، إذ تخشى بشدة الغرق في مستنقع جديد يشبه افغانستان، ويبدو هذا السيناريو كارثياً بالنسبة الى بوتين الذي تعهّد عدم زجّ قوات برية في سورية، لكنه أرسل آلافاً من عناصر مشاة البحرية للمشاركة في حماية القطعات العسكرية وتنفيذ عمليات خاصة محدودة اذا اقتضت الحاجة. ولكن من يضمن عدم الانزلاق شيئاً فشيئاً الى مواجهة مباشرة؟ في هذا الإطار، جاء الحرص الروسي على دفع مسيرة التسوية السياسية والرهان على عملية فيينا، وحتى القبول بخطة أميركية لطرحها في مجلس الأمن، تتمحور حول وضع «خريطة طريق» للتسوية، لا تبدو في كل بنودها مرضية لموسكو ولحليفها الأساسي في المنطقة، ايران. الأكيد ان روسيا لا تمتلك الرغبة ولا الموارد لخوض حملة طويلة الأمد في سورية، كما أن موسكو في حاجة ملحّة إلى الحل السياسي. وفي الوقت الراهن يجب أن يتضمّن هذا الحل حقيقة التواجد العسكري الروسي الواضح في سورية. ويصعب تصوُّر تخلّي الكرملين عن الإسراع في إنشاء بنية تحتية هناك، مثل الولاياتالمتحدة التي لم تغادر أفغانستان بعد انتهاء مهمتها هناك. ويلخص خبير مقرّب من الكرملين، الموقف بالعبارات التالية: «المجازفات، ليست أقل حضوراً ووضوحاً من الإنجازات. فموسكو، عملياً تشارك في حرب أهلية قاسية، إلى جانب أحد الطرفين. وتشارك في حرب دينية، متضامنةً مع الأقلية الشيعية ضد الأكثرية السنّية في العالم الإسلامي. وهذا يتطلب رسماً دقيقاً للسياسة، وإلا فإن نطاق الضرر قد يكون واسعاً، بما في ذلك على صعيد السياسة الداخلية، لجهة خصوصيات المسلمين الروس من الناحية الطائفية». وعلى رغم حرص الخبراء الروس على التمييز بين التصرفات الروسية في سورية وتصرفات القوى الغربية في المنطقة، يبدو الاستنتاج النهائي قريباً، لأن كثيرين منهم باتوا يتحدثون علناً عن ضرورة الشروع في التفكير بمسألة «استراتيجية الانسحاب»، خصوصاً إذا سارت الأمور على غير ما هو مخطط لها. «في نهاية المطاف، يُنزل الأميركيون ضربات ب «داعش» من قاعدة انجرليك في تركيا، حيث سيبقون تحسباً لتطور العمليات الحربية بما لا يلائمهم. أما الطيارون الروس فيرابطون في سورية مباشرة»... ما يعني ان الانجرار إلى تورُّط اكبر تبدو فرصه ظاهرة، مهما حاول الكرملين التغطية على أخطار تطوُّر من هذا النوع. ويعتبر بعضهم ان لكل حرب منطقها الذي يتغلب، في لحظة ما، على الجدوى السياسية. والخروج من عنق الزجاجة واضح الصعوبة. والدليل تجربة كل البلدان، تقريباً، التي حاولت لعب أدوار كبيرة في الشرق الأوسط. يخشى ناصحو الكرملين من أن «تاريخ هذه المنطقة يعلمنا أمراً واحداً: لا شيء يسير هناك كما أُريدَ له».