تتسم أعمال الكاتب المصري إبراهيم فرغلي بكونها مثيرة للجدال لاعتبارات عدة على رأسها انشغاله بالإيروتيكا التي تشكل ملمحاً بارزاً فيها، إلى جانب إصراره على إنجاز أعمال تتسم بالضخامة، فضلاً عن ولع غرائبي لا يمكن تفاديه. وأخيراً أصدر فرغلي روايته «معبد أنامل الحرير»، (منشورات ضفاف/ الاختلاف، بيروت) التي تثير تساؤلات عن طموح الكاتب في معالجة موضوع الرقابة في المجتمعات العربية، وهي القضية التي عالجها في روايته «أبناء الجبلاوي» التي نالت قبل عامين جائزة ساويرس. ترى ما الذي يدفع الكاتب لمواصلة البحث وراء الموضوع ذاته؟ وما هي دوافعه للخروج بنصوصه الجديدة إلى حد الاهتمام بأدب الناشئة بعدما وصلت روايته «مصاصو الحبر» إلى قائمة جائزة الشيخ زايد لكُتب الأطفال. يعمل إبراهيم فرغلي (1969) محرراً في مجلة «العربي» الكويتية، وخلال سنوات إقامته في الكويت، واصل تقديم إنتاجه الأدبي على نحو مطرد، بعدما قدم في مصر، مجموعة قصصية أولى بعنوان «باتجاه المآقي»، ثم «أشباح الحواس»، وروايات عدة، منها «كهفُ الفراشات»، و «ابتسامات القديسين». يركز فرغلي على قضايا تشكل ملامح لمشروع أدبي واضح المعالم، سواء تعلَق بكشف خطاب الرقابة القمعي، أو الانشغال بعلاقة الشرق بالغرب وتقصي أثر الإيروتيكا في الممارسة الأدبية بوصفها خطاباً فاعلاً وكاشفاً في آن. هنا حوار معه عن انشغالاته الجديدة ككاتب وطموحه في اللحظة الراهنة التي تشهد انفجاراً روائياً على الصعيد العربي. في العمل الجديد، ثمة خيوط تربطه بروايتك الكبيرة «أبناء الجبلاوي» من حيث الإلحاح على التأكيد على أخطار فكرة الرقابة ودور الرقيب، لكن هنا مساحة السخرية أكبر كما يلاحظ القارئ.! - طبعاً، فتواطؤ الوعي الجمعي مع الرقيب، كما أعتقد، وتبرع المواطن العادي بأن يكون واشياً أو رقيباً على منتجي الفكر والعلم والأدب مسألة بالغة الخطورة، نرى آثارها التي تبدو كخطر إضافي لسلطة الرقيب السياسي أو الحكومي. لذلك وجدتُ أن استخدام السخرية هنا مهم، لكشف طبيعة تواطؤ رجل الشارع مع من يمنع عنه المعرفة، كأنه بذلك يمنح نفسه صكاً أخلاقياً من جهة، ويحدد لنفسه موقعاً «مريحاً» في المجتمع، بالقبول بالمسلمات الاجتماعية المتفق عليها مع السلطة السياسية والأخلاقية. وهو من جهة أخرى سلوك يعبر عن طبيعة الذهنية الرجعية المحافظة التي تكره المختلف، وتحارب فضيلة التفكير والعقلانية والشك. لهذا فضلتُ استخدام السخرية اللاذعة كما ورد في أسلوب النص. الانشغال بفكرة التركيب أو الترصيع السردي مع نصوص أخرى معروفة، هل تحصرها كنصوص مقاومة، بمعنى انتصارها البالغ على فكرة الرقيب، وبالتالي هي جزء من استراتيجية مقاومة الحكاية للفناء؟ - بالتأكيد، ومقاومة العقل للخرافة، ومقاومة التفكير الحر للمسكوت عنه، وطبعاً في نص تلعب بطولته الرئيس رواية تتحدث وتحكي، كان لا بد لها من أن تستدعي أترابها، وتستعرض هويات أقرانها من النصوص والروايات، لتكشف أيضاً أن مقص الرقيب، أو سيفه لا يمكن لهما أن يبترا رقاب الفكر. لأن الأفكار مهما بدت حبيسة دفتي كتاب، يظل جوهرها أعمق وأكبر، وتمتلك قدرتها على التحليق عبر أي قيود. إذا تمكن مقص الرقيب من قص الألسنة، لا يمكن له أن يمنع الكلام، وهنا ينبثق العالم السري الذي ستنطلق منه مرة أخرى الأفكار والنصوص الممنوعة. الناقد محمود عبدالشكور أشار إلى مسألة بالغة الأهمية تتعلق بانتقال السرد في روايتك الأخيرة من رواية الأفكار، نحو رواية المغامرة، هل يفسر ذلك إنتاج كالأخير ورغبتك في كتابة نصوص للناشئة لتنمية أدب المغامرات وهل اعتبرت الرواية الكبيرة تدريباً للولوج نحو عالم الصغار؟ - ربما، لست متأكداً من ذلك تماماً، لكني منذ فترة وأنا أفكر في أعمال أمبرتو إيكو، وأعيد تأمل «اسم الوردة»، مدركاً في قراءة جديدة أنني انشغلتُ في الأولى بأجواء العصور الوسطى ووصف الأديرة والمخطوطات، بينما كان ذلك كله محمولاً على جسد رواية بوليسية في الحقيقة. وأظن أن هذا الشاغل هو ما حفَّزني لكي أمنح كتابي أو روايتي هذه «معبد أنامل الحرير» طابع المغامرة والغموض مع تعميق البعد الفلسفي لها، ومع ذلك فقد توقفتُ عن كتابتها مرتين لأنجز روايتين للفتيان، ولعل النصوص الثلاثة تأثرت معاً بتحمسي لتضفير الرواية ببُعد المغامرة والجريمة على نحو أو آخر. أنت دائم الدفاع عن كتابة نص بعدد صفحات كبير في مواجهة ما اعتبرته حالة «كسل نقدي واستسهال»؟ - أدافع فقط عن حق النص في أن يتخذ الحيز الذي يفرضه، من دون أي تصور مسبق من كاتبه. لا ضير عندي أن ينشر كاتب ملحمة من ألف صفحة طالما كانت في داخل النص هذه المبررات الفنية. أو أن ينشره في «نوفيلا» لا تتجاوز 70 صفحة لو كانت الضرورة الفنية تقتضي ذلك. لا يهمني أن يكون القارئ كسولاً، ولا أهتم بما قد يقال عن أن القراء ليس لديهم طاقة للقراءة الطويلة، فهذا شأنهم وليس شأن النص الأدبي ولا شأني. كما أنني لا أحب الكليشيهات والموضات، وقد شاع مع ظهور جيل التسعينات المصري ربط يوازي أو يشترط أن تكون الكتابة الحداثية مقترنة بنصوص مكثفة ومختزلة، لم يعجبني الكليشيه، وقد كتبت «أبناء الجبلاوي» بنَفَس ملحمي، وهو نص أزعم أنه يرتبط بظواهر شديدة الحداثة في تقنيات الكتابة، ولا أجد تعارضاً البتة، ولو عدتُ لكتابتها مئة مرة لا أظنها ستكون بغير هذا الحجم. رواياتك الأولى «كهف الفراشات» كان الرهان فيها على غرائبية المكان، بخاصة الطبيعة العُمَانية حيث عشت طرفاً من سنوات مراهقتك، ام في العمل الأخير فثمة تحول إلى غرائبية أخرى تتعلق بالمصائر والتحولات وصولاً إلى رواية ما يجري مع مغامرات القراصنة؟ - لديَّ سؤالان رئيسان منذ نشرتُ أولى رواياتي؛ أحدهما عن كيفية إنجاز مستويين سرديين أو أكثر في نص واحد، والسؤال الثاني خاص بإيجاد أو اختلاق صبغة تمتح من تراث الغرائبية، وفي كل نص من نصوصي أحاول أن أقدم إجابة مختلفة للسؤالين. العالمان؛ الواقعي والغرائبي المتوازيان في «كهف الفراشات»، ثم صوت طيف الميت كراوٍ رئيسٍ لأحداث واقعية بين زمنين في «ابتسامات القديسين»، ثم اختلاق رواة متعددين يمثلون شياطين كتابة الكاتب في «أبناء الجبلاوي» وتنافسهم في مزج الواقعي بالغرائبي، ثم وصولاً إلى النص الأخير الذي رأيت أن الغرائبي فيه يمكن أن يتحقق فعلاً من غرابة أنماط الأبطال والشخصيات، اضافة الى أولئك الهاربين من ظلام المدينة المسيطر عليها إلى أنفاق الحرية والشِعر وكل ما هو مسكوت عنه كيوتوبيا بديلة للحرية تحت الأرض. وربما يعود تقصدي لإظهار غرائبية المصائر أو الأشخاص إلى أن واقعنا اليوم عادة ما يتهم الشخص الحر، وأحياناً الذي يتوق إلى الأدب والثقافة إما بغرابة الأطوار أو الجنون أو بهما معاً. اللغة في العمل الأخير فيها تنوع بالغ، لكن ثمة فجوات بين لغة الشعر في بعض المناطق ولغة تقريرية تتعاطى مع وقائع، فكيف تفسر ذلك؟ - أكره، حرفياً، استخدام العامية حتى في حوارات أبطال أعمالي، وتحايلتُ فنياً في «أبناء الجبلاوي»، وما قبلها لهذا الشأن، ولكني في «معبد أنامل الحرير» أردتُ أن أقدم النقد عملياً وفي شكل فني، فقدمتُ جانباً من المشاهد الواقعية بهذه اللغة المباشرة لكي يدرك القارئ مدى فجاجة اللغة الواقعية، ومدى ابتذال فكرة استخدام العامية، لأن الرواية في الحقيقة ليست نقلاً للواقع بل هي خلق واقع فني خيالي مواز. أظنني هنا أردتُ أن أستخدم نفسي ونصي لنقد ظاهرة فنية، حاولتُ فيها أن أظهر الفارق المفجع بين اللغة الأدبية والشعرية. ربما أيضاً في بعض المواقع مقارنة بلغة الواقع المبتذلة، وهي قد تكون كذلك دلالة غير مباشرة على الواقع المبتذل. رغم تبدلات مرَّ بها نصك الأدبي إلا أن الجنس والإيروتيكي ظل هاجساً رئيساً تجلى في «شامات الحُسن» كمجموعة قصصية كرَّست بالكامل لهذا التناول؟ - طبعاً، وأظن أنه في ما رأى البعض أن ينقل أحداث العنف التي واكبت الثورات العربية رغم أن الأحداث ما زالت ساخنة والرؤية مضبَّبة، كان تقديري أن ثورتي ينبغي أن تتوجه إلى النص الأدبي، ولهذا كتبتُ ونشرتُ مجموعة إيروتيكية هي «شامات الحسن» خلال فترة وجود الإخوان في الحكم في مصر، ولأنني أعتقد أيضاً بأن حرية الجسد هي المعيار والمختبر الحقيقي لحرية أي مجتمع، كما أن الجسد هو موضع كل العُقَد والمكبوتات والازدواجية الأخلاقية في مجتمعاتنا، وهو في تقديري لذلك يحتاج إلى المزيد من الإضاءة، وباستمرار. دلالات الاسم في العمل الجديد بالغة الأهمية (سديم ورشيد) هل تهتم بهذا الأمر خلال الكتابة، أم هو خيار عشوائي؟ - يبدو أنني في انحيازي إلى الخيال، واختلاق واقع خيالي، أرى أن اختلاق أسماء تخص هذا العالم الخيالي مهمة في تأكيد السمت الخيالي للنص. وهناك شخصيات أشعر أنني مهتم بتأثيرها في القارئ، فأبذل جهداً لإيجاد أسماء لها، مثل اسم الفتاة الإثيوبية أيضا «ميهريت»، وكثير من الشخصيات الموجودة في مدينة النسَّاخين تحت الأرض. هل لديك الشعور بأن هناك كسلاً نقدياً في متابعة إنتاجك الغزير في السنوات الأخيرة، وهل هي محنة كما أظهرتَ غير مرة؟ - لا، ليس لديَّ شعور بأي كسل من قِبَل النقاد، بل أشعر في الحقيقة بانعدام الجهد النقدي التام، يا رجل، يمضي الكاتب ست سنوات من عمره ليكتب نصاً، ويبحث، ويختلق أفكاراً ولغة، ثم لا يجد هذا النص من يمتلك الهمة والجرأة، إلا من رحم ربي طبعاً، للقراءة وتقديم رؤية نقدية، لمجرد أن النص غير تقليدي ومركب. هذه ليست محنة فقط، بل قاربت أن تكون «نكبة» الأدب العربي المعاصر والحديث بصراحة.