قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والإقليمية في السودان لا تزال قوى سياسية تقلب مواقفها بين المشاركة والمقاطعة، وأثار قرار «الحركة الشعبية لتحرير السودان» مقاطعة المنافسة في شمال البلاد شرخاً بين قياداتها، في وقت سعى الرئيس عمر البشير إلى احتواء تهديداته بطرد مراقبين دوليين في اعتذار ضمني أمس بعدما بدأ مراقبون أجانب يدرسون مغادرة البلاد. وقالت بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات السودانية إنها تدرس سحب مراقبي الانتخابات التابعين لها من ولايات دارفور الثلاث بسبب مخاوف على سلامتهم وفرض قيود على عملهم. وقالت رئيسة وفد بعثة الاتحاد الأوروبي للانتخابات في السودان فيرونيك دي كيسر في تصريح في الخرطوم قبل توجهها إلى الفاشر كبرى مدن إقليم دارفور أمس: «نبحث في سحب مراقبينا من دارفور ... تمثل سلامة بعض المراقبين في بعض الأجزاء النائية من البلاد قلقاً بالغاً بالنسبة إلي. إنني قلقة أيضاً في شأن قدرتنا على المراقبة». وأضافت: «العنف في بعض أنحاء دارفور مروع». وتابعت: «نحن قادرون فقط على متابعة جزئية .. فكيف يمكننا القيام بمراقبة سليمة في دارفور.. صدقية البعثة معرضة للخطر. الناس يسألوننا كيف يمكنكم المراقبة في دارفور وهذا سؤال ليس لدي رد عليه». وأفادت دي كيسر أنها قلقة على وجه الخصوص بعدما هدد الرئيس عمر البشير بطرد المراقبين الدوليين الذين دعوا إلى ارجاء الانتخابات. كما هدد البشير بقطع أصابعهم وألسنتهم. وتابعت في تلميح إلى البشير: «لا يمكن عادة معاملة المراقبين الدوليين الذين دعوتهم أنت هكذا ... هذا لا يعكس حسن الضيافة التي يشتهر بها العالم العربي والسودان». وآعلنت دي كيسر لوكالة «فرانس برس» إثر وصولها الى الفاشر أمس قرار انسحاب المراقبين من دارفور. ويتألف فريق الاتحاد الأوروبي الذي وصل إلى دارفور في منتصف آذار (مارس) الماضي من اثنين من المراقبين في كل من عواصمالولايات الثلاث لدارفور. لكن البشير قال في خطاب أمام أنصاره في مدينة شندي في شمال البلاد أمس الأربعاء إنه يحترم مراقبي مركز كارتر والاتحاد الأوروبي وقال إن حكومته دعتهم لمراقبة الانتخابات وستحسن ضيافتهم. وزاد: «نحن نحترم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وقد قام بأعمال جليلة في بلادنا وسيصل إلى الخرطوم بعد يومين ... نحن نرحب به وسنتعاون معه، وكذلك مع مراقبي الاتحاد الأوروبي وسنسمح لهم بالتجول في ولايات البلاد لأداء مهمتهم». وعدد البشير الخدمات التي قدمها كارتر لحكومته، قائلاً إنه أول من طرح مبادرة سلام حقيقية بين الشمال والجنوب إلى جانب أنه قاد دفة المصالحة بين السودان وأوغندا، كما أن مركز كارتر يبذل حالياً جهوداً في الجنوب. واعتبر مطالب المركز في وقت سابق بتأجيل الانتخابات «غلطة عابرة» جاءت نتيجة لإملاءات المعارضة، لكن المركز عدل عن ذلك بعد أن اطلع على ترتيبات مفوضية الانتخابات. ورأى البشير أن فوزه في الانتخابات الرئاسية لا يحتاج إلى تزوير أو خداع، ساخراً من اتهام حزبه (المؤتمر الوطني) بالغش، واستشهد بالاستقبالات التي وجدها خلال طوافه في البلاد. واستهجن البشير ما تردده «الحركة الشعبية» عن تزوير حزبه للانتخابات التي تدخل مرحلة الاقتراع بعد ثلاثة أيام، وشدد على أن نهج التلاعب والتزوير يتعارض تماماً مع مبادئ حكومته التي تقوم على إعلاء كلمة الله وتحكيم شرعه. ولفت البشير إلى أن حكومته لن تتضرر من تأجيل الانتخابات، طالما أنها باقية على سدة الحكم. وأرجع تمسكه بقيامها في الموعد المضروب إلى عهد قال إنه قطعه أمام الله بأن يرجع الأمر إلى الشعب السوداني لاختيار قياداته. واتهم جهات لم يسمها، شبّهها ب «العقارب والثعابين»، بالسعي الى تقويض السلام والعودة إلى مربع الحرب ثانية، وقال: «قفلنا لهم الطريق إلى الجنوب فظهروا مجدداً في دارفور». ووعد البشير ببذل جهود إضافية لسد الطريق ثانية أمام طموحاتهم الشريرة، وقال: «سنحقق السلام في دارفور، كما استطعنا أن نبثه في ربوع الشرق والجنوب». وجدد عزمه التوجه إلى الجنوب بعد فوزه ليعمل من أجل الوحدة، وأوضح أن التوجه القادم لحكومته هو فتح الحدود أمام الدول المجاورة بدون تأشيرة وعبر البطاقات الشخصية فقط. وكان مركز كارتر هدد الثلثاء بسحب بعثته لمراقبة الانتخابات من الخرطوم ولكنه رهن بقاءه بتقديم البشير اعتذاراً مكتوباً ومعلناً رداً على تهديداته لهم بالطرد. وأبعدت السلطات السودانية تسعة مراقبين دوليين من مركز كارتر من الولايات الشمالية. إلى ذلك نفى نائب رئيس «الحركة الشعبية» حاكم ولاية النيل الأزرق مالك عقار ما أعلنه الأمين العام للحركة باقان اموم عن مقاطعة الاقتراع في شمال البلاد، معتبراً الحديث عن مقاطعة شاملة شخصياً ومتجاوزاً لقرارات المكتب السياسي لحركته التي أقرت سحب مرشحها للرئاسة ومقاطعة المنافسة في ولايات دارفور الثلاث. وقال عقار أمس إن موقف المكتب السياسي للحركة من الانتخابات واضح ومعلن ولم يحدث فيه أي تعديل أو تغيير. وأوضح أن «الحركة الشعبية» ربطت خوض الانتخابات في المستويات الأخرى بظروف الأشخاص، موضحاً أن أي شخص لا يرى في نفسه كفاءة للاستمرار في الانتخابات لأي سبب عليه الانسحاب. وزاد: «سيكون ذلك بصورة فردية وقراراً شخصياً، لا علاقة للمكتب السياسي به». واعترف عقار للمرة الأولى بوجود صراع داخل «الحركة الشعبية»، لكنه لم يشأ الخوض في تفاصيله، وقال: «هناك صراعات داخل الحركة لكن ما يحدث الآن مجرد تباين في المواقف»، معتبراً أن أجواء التوتر في الحركة طبيعي في ظل قيام عملية مصيرية ومكلفة مثل الانتخابات. وعما إذا كانت ضوابط حركته تسمح لأشخاص بإعلان قرارات بعيداً من المؤسسات، اكتفى بالقول «إن صعوبة المواقف دائماً ما تقود إلى التباين في الآراء». وكان الأمين العام ل «الحركة الشعبية» باقان أموم أعلن ليل الثلثاء مقاطعة الانتخابات على المستويات كافة في شمال السودان، بسبب ما وصفها بانتهاكات خطيرة شابت العملية الانتخابية واستمرار حال الطوارئ في دارفور، وقال إن قرار حركته يستثني ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المجاورتين للجنوب اللتين يشملهما اتفاق السلام، مشيراً إلى أن الحركة ستخوض الانتخابات على كل المستويات في الجنوب. واتهم أموم حزب المؤتمر الوطني بزعامة مرشحه إلى الانتخابات الرئاسية عمر البشير بأنه «يواصل إصدار التهديدات للمراقبين، ويمكنكم أن تتخيلوا إن كانوا يهددون المراقبين بقطع أطرافهم وأنوفهم، ما الذي يمكن أن يحدث للشعب السوداني، كما تعلمون، تم طرد ممثلي مؤسسة كارتر من تسع ولايات في شمال السودان. هذا يبرهن على عدم تساهل حزب المؤتمر الوطني». ويأتي هذا الموقف بعد أيام من سحب مرشح «الحركة الشعبية» للرئاسة ياسر عرمان. غير أن المسؤول في حزب المؤتمر الوطني الحاكم إبراهيم غندور قلل في تصريح صحافي من مقاطعة «الحركة الشعبية» للانتخابات في شمال البلاد معرباً عن استيائه إزاء القرار، لكنه أكد أنه لن يؤثر في شرعية الانتخابات أو ترتيبات تنظيم الاستفتاء على تقرير الجنوب. وحسم الحزب الاتحادي الديموقراطي برئاسة محمد عثمان الميرغني موقفه بصورة حاسمة وقرر إعادة مرشحه للرئاسة حاتم السر للسباق الانتخابي. وأبدى السر ثقته في الفوز بأكثر من 80 في المئة من أصوات الناخبين من الجولة الأولى، ونفى أن تكون الخطوة صفقة مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم. واعتبر السر الاتحادي الديموقراطي من اكبر الأحزاب جماهيرية في الساحة، ووصف الحشود الضخمة التي رحّبت بالميرغني لدى زيارته الولايات بأنها كانت زلزالاً «أزعج قيادات حزب المؤتمر الوطني»، مبيناً أن حزبه قرر خوض الانتخابات في هذه المرحلة منفرداً حتى يعرف وزنه الحقيقي نافياً في شدة وجود تحالفات من أي نوع مع الحزب الحاكم، قائلاً: «لن نعيش في جلباب احد». لكنه قال إن حزبه سيقرر مع من سيتحالف في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية «إذا حصلت مفاجأة ولم نفز في الجولة الأولى». أما حزب الأمة المعارض بزعامة الصادق المهدي ففشل في حسم موقفه من المشاركة في الانتخابات، على رغم استمرار اجتماع مطول لمكتبه السياسي إلى الساعات الأولى من صباح أمس وينتظر أن يكون تواصل ليلاً. وقال الأمين العام المساعد للحزب عبدالرحمن غالي إن هناك تبايناً في أوساط الحزب، حيث طالب البعض بالمقاطعة بدعوى أن الشروط التي وضعها الحزب للمشاركة ما زالت قائمة، بينما هناك تيار آخر يرى إمكانية المشاركة جزئياً في السباق الانتخابي. وكان الحزب رهن مشاركته في الانتخابات بتلبية ثمانية شروط في مهلة انتهت الثلثاء، أبرزها تمديد موعد الاقتراع أربعة أسابيع، أي إلى ما بعد الأسبوع الأول من أيار (مايو). ودعا زعيم حزب المؤتمر الشعبي حسن الترابي، من جانبه، أحزاب المعارضة إلى عدم مقاطعة الانتخابات، وقال إن لتلك الأحزاب حظوظاً كبيرة يمكن أن تغير الكثير في البلاد. وقال إن القوى السياسية لو توكلت على الله واقتحمت الانتخابات لفعلت الكثير. ورأى أن الثورات لا يخطط لها، موضحاً انه لا يمكن تغيير نظام الحكم نحو الحرية وحكم الشعب إلا عبر الانتخابات، حتى لو كانت غير حرة وغير نزيهة. كما أشار الترابي إلى أن بإمكان تلك الأحزاب الفوز في انتخابات الرئاسة، إذا تصرفت على النحو المطلوب، موضحاً أن المعارضة لو اجتهدت لمنعت مرشح حزب المؤتمر الوطني عمر البشير من الحصول على النسبة المؤهلة للفوز ما سيجعل هناك دورة ثانية تتفق فيها المعارضة على مرشح واحد ستكون حظوظه في الفوز كبيرة، وأن البشير حينها لن يستطيع فعل شيء لأن تداعيات أي خطوة غير التسليم بالنتيجة ستكون خطيرة عليه.