أقف زاوية اليوم على رسائل قارئة واحدة لا أعرف كيف أصفها، فهي تقول إنها في التاسعة عشرة، أي أنها لم تودع المراهقة بعد، ثم تقول إنها طالبة في القسم الانكليزي في الجامعة (أي جامعة وفي أي بلد؟)، غير أنها تبدي في الوقت نفسه معرفة واسعة بالدين وبالشعر القديم والحديث ما قد يفاخر به كهل لا طالبة مراهقة. رسائل القارئة بدأت في أول يوم من هذا العام واستمرت حتى اليوم، بمعدل رسالتين أو ثلاث في الشهر، مع تكرار ارسال كل رسالة الكترونية مرات عدة لتضمن ان أقرأها، كما تقول. في الرسالة الأولى أكدت لي انها معجبة بما أكتب، مع أنها تختلف معي في كثير من الأمور، وهي لا تريد أن تصبح صحافية في المستقبل مثلي لأنها تكره الصحافة كرهها أفيغدور ليبرمان. والقارئة أعلنت أنها تعارضني في موضوع الحجاب والنقاب، وقالت إن الإمام أحمد بن حنبل أوجب تغطية الوجه في حين أن الأئمة الشافعي والمالكي وأبا حنيفة (وهي من مذهبه) أباحوا كشف الوجه مع الحجاب. وهي رأت أن اسرائيل غبية لأنها كانت في مركز قوة وتستطيع تدمير العرب ولم تفعل، فنسيت أن الدنيا «يوم لك ويوم عليك» والأيام المقبلة ستنقلب عليها وستندم. واختارت القارئة بعد ذلك ان تغير بعض كلمات محمود درويش في قصيدته المشهورة «أيها المارون بين الكلمات العابرة» وتنسب الى الإسرائيليين قولهم إنهم هم الباقون ونحن العابرون، ومنهم الفولاذ والنار ومنا اللحم، ومنهم دبابة أخرى ومنا حجر هش. كنت أرد على رسائل القارئة في شكل مباشر بحسب ورودها، وهي في رسالة أخرى قبل شهرين عادت لتعزيني في قومي العرب، وتشير الى المثل «ستظل العرب عرباً ما لبست العمائم وتقلدت السيوف». وهي تقول إن سيوف العرب صدئت حتى لم يعودوا يعرفونها والعمائم هجرها العرب الا أصحاب المصالح الخاصة. وهي تستغرب ان يعترض العرب على قول برنارد لويس ان العرب أمم غير متجانسة لأنهم كذلك فعلاً، وتقول إنها تريد أن تحقق حلمي وتنقذ فلسطين ثم تثأر لها من العرب أولاً. في رسالة أخرى تختار القارئة أن تحكي لي قصة جريئة لا مجال لنشرها، ولكن أختار منها بيتين من الشعر وأترك لخيال القارئ أن يكمل: وأَفْجر من راهب يدعي/ بأن النساء عليه حرام ودير العذارى فضوح له/ وعند اللصوص حديث الأنام القارئة يحمل عنوانها الإلكتروني كلمة قمر، ولكن لا أعرف ان كان هذا اسمها، أو أنه صيف الوارد في رسالة أخرى، وإن كان اسمها على مسمى، أو انها «قمر انتهت صلاحيته» كما قالت مرة، ولا أفهم كيف تنتهي هذه الصلاحية عند حدود 19 ربيعاً. احدى أطول رسائلها وأزخرها بالمادة جاءت في الشهر الماضي فقد اختارت ان ترسل لي شعراً قاله الشعراء العرب المسيحيون في مدح نبي العرب كلهم، وزادوا فيه أو زايدوا على الشعراء المسلمين. ولا أستطيع هنا سوى الإيجاز نقلاً عنها. الياس حبيب فرحات قال: غمر الأرض بأنوار النبوة/ كوكب لم تدرك الشمس علوّه ان في الإسلام للعُرب عُلا/ ان في الإسلام للناس أخوة وقال ميخائيل بن خليل الله ويردي: صلّى الإله على ذكراك مبتعثاً/ حتى تؤم صلاة البعث بالأمم وقال شبلي الملاط: من للزمان بمثل فضل محمد/ وعدالة كعدالة الخطّاب رفع الرسول عماد أمّة يعرب/ وأعزها بالأهل والأصحاب أما الشاعر القروي رشيد سليم الخوري فكاد يطلع من دينه المسيحي وهو يقول لزعيم الثورة الدرزية حسن باشا الأطرش: إذا حاولت رفع الضيم فاضرب/ بسيف محمد واهجر يسوعا أحبوا بعضكم بعضاً وُعِظنا/ بها دنيا فما نَجّى القطيعا ويخاطب النبي في قصيدة أخرى ويقول: يا جاعل الأرض ميداناً لقوته/ صارت بلادك ميداناً لكل قوي فإن ذكرتم رسول الله تكرمة/ فبلّغوه سلام الشاعر القروي والشاعر المهجري محبوب الخوري الشرتوني قال: قالوا تُحب العرب؟ قلت أحبهم/ يقضي الجوار عليّ والأرحام قالوا وقد بخلوا عليك أجبتهم/ أهلي وإن بخلوا علي كرام ومحمد بطل البرية كلها/ هو للأعراب أجمعين إمام أقول إن شعراء النهضة العرب من المسيحيين كانوا سبّاقين في الدعوة الى إحياء أمجاد الإسلام والأمة العربية، فقد كانوا أكثر جرأة من الشعراء المسلمين الذين أرادوا اصلاح الخلافة العثمانية لا هدمها، والذين رحبوا في البداية بعسكر مصطفى كمال اتاتورك وحزب الاتحاد والترقي، ولكن عندما تحول الحكم الجديد الى طورانية تركية تخلوا عنه وهاجموه. وثمة كتب كثيرة عن الموضوع، وأنصح القارئة بالعودة الى كتاب «الشعر والوطنية في لبنان والبلاد العربية» من تأليف الدكتور وليم الخازن فهو مرجع في موضوعه. آخر ما تلقيت من رسائل قمر تضمن اعتراضها على قولي ان هناك يهوداً يمكن عقد سلام معهم، وهي تقول إنهم سرقوا الأرض ولن يتنازلوا عنها، والآن يستولون على المساجد أو يهدمونها والعالم العربي يتفرج. وتختار من شعر أبي البقاء الرندي: تبكي الحنيفية البيضاء من أسف/ كما بكى لفراق الإلف هيمانُ حتى المحاريب تبكي وهي جامدة/ حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ هل نحن كلنا على طريق الأندلس؟ الجواب موجود في طيّات السؤال، ولكن أقول لا إذا كان لبنت عربية تودع المراهقة هذه الثقافة وهذا الحسّ الوطني. [email protected]