قد يكون أمراً مفهوماً، بل حتى متوقعاً، أن تخفت نبرة السجال الأميركي الإسرائيلي الذي اندلع قبل نيفٍ وأسبوعين إثر إعلان الحكومة الإسرائيلية عن خطة لبناء مئات الوحدات السكنية الاستيطانية في القدسالشرقية. وليس مستبعداً أن يكون الخفوت، بالأحرى تخفيف اللهجة لوضع الأمور الخلافية على نار هادئة، هو أقصى ما توصّل إليه بنيامين نتانياهو في زيارته الأخيرة واشنطن. فقد بات معلوماً أنّ التصريحات الحامية التي أطلقها نتانياهو في حفلة اللوبي المؤيد لإسرائيل، أيباك، ولدى عودته من واشنطن، والتي أكد فيها أنّ القدس غير المجزأة عاصمة إسرائيل الأبدية، لم تنجح في التقليل من «برودة» لقائه مع الرئيس الأميركي باراك أوباما. ويبدو أنّ الخلاف بين الطرفين كان حادّاً بحيث استدعى لجوء نتانياهو إلى التلويح الابتزازي، المصبوب صبّاً عقائدياً، بحق اليهود الذين بنوا القدس قبل ثلاثة آلاف عام في استئناف هذا البناء واستكماله، كما لو أنّ الفاصل الزمني المديد بين الحالتين ليس سوى عبارة عن شرود الحياة التاريخية خارج المدار المفترض للسوية البشرية. والحال أنّ الأمر يتعدّى، ها هنا، المقولة المعروفة عن وضع التاريخ في خدمة اللاهوت. كما يتعدّى مخالفة القرارات الدولية المتعلقة بالقدس تحديداً. إنّه أقصى العنف. ليس لأنّه يطرد بكل بساطة التاريخ، البعيد والقريب في آن، والذي تشكلت فيه جماعات وثقافات بشرية متنوعة. بل لأنّه ينزع عن هذه المجتمعات وثقافاتها شرعية الحق الإنساني في الوجود والإقامة. بعبارة أخرى، إذا شئنا تأويل هذا التصريح تأويلاً منطقياً جاز الظنّ في أنّ الفلسطينيين عموماً والمقدسيين خصوصاً ليسوا، بلحمهم وعظمهم ودمهم وبيوتهم وأشجارهم واجتماعهم، سوى الأطياف العابرة التي يمكن أن يلمحها تخيّلاً زائر متحف أو متصفّح كتب رسوم أثرية. لا يرمي هذا التوصيف إلى التنديد والاستنكار المعهودين في الكثير من الأدبيات العربية وغير العربية. إذ يمكن ترك هذا الأمر لهواة التعويض البلاغي والخطابي عن العجز المقيم، وعن استبطان هذا العجز إلى حدّ جعله عنواناً لواقعية سياسية راشدة. ما نرمي إليه هو إلقاء بعض الضوء على الصلة بين العجز هذا وبين توتر العلاقة الأميركية الإسرائيلية. فقد تحدّثت تقارير إخبارية من واشنطن عن استمرار التأزّم بين الجانبين على رغم خوضهما محادثات مكثفة لتسوية الخلافات بينهما (جريدة «الحياة» الصادرة يوم الأربعاء الفائت). وأكّد مسؤول أميركي مطلع على مضمون المحادثات مع إسرائيل أنّ المفاوضات ما زالت جارية لإقناع نتانياهو بتقديم تنازلات في موضوع القدس، وأنه على رغم استياء الإدارة الأميركية من تصرفات الحكومة الإسرائيلية ليس هناك نية أميركية لتغيير شكل الحكومة في هذه المرحلة. ويرى السفير السابق لدى إسرائيل ومدير «مركز صابان لسياسات الشرق الأوسط» مارتن انديك أنه ما زال في إمكان البيت الأبيض التكيف مع الحكومة الإسرائيلية الحالية، وأنه من الممكن إقناع أقصى المتطرفين في حكومة نتانياهو مثل وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان بتسوية لوقف الاستيطان في الأحياء العربية في القدس. سنضع جانباً تضارب الآراء المتحدثة عن محادثات الأسبوع الماضي وترجحها بين تأكيدات على حصول تقدم في المفاوضات، وبين حرص الإدارة الأميركية على عدم إعلان أي تفاهم قبل الحصول على «تنازلات محورية» من الجانب الإسرائيلي. سنتوقف عند قراءة انديك لما يصفه التقرير بالأزمة الأميركية الإسرائيلية. فالسفير السابق الذي كان أحد أبرز مهندسي استراتيجية بيل كلينتون، يضع هذه الأزمة في باب «التباعد الاستراتيجي» بين الحليفين، إذ يرى أنّ واشنطن «تضع عملية السلام في صلب الاستراتيجية لعزل إيران إقليمياً، من خلال الوصول إلى اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يضعف خط الممانعة المدعوم من إيران» والذي تحدثت عنه الوزيرة هيلاري كلينتون في خطابها. أما حكومة نتانياهو فتعتبر أنّ «الأولوية هي للملف الإيراني، وأنّ معادلة المقايضة على أي تنازل في عملية السلام للأميركيين مقابل الوصول إلى اختراق في العقوبات على طهران تطمئن تل أبيب». لقد تحدثت تقارير إخبارية مشابهة، وذلك قبل أكثر من أسبوعين وإثر الإعلان عن توتر العلاقة بين الحليفين الاستراتيجيين، عن خلاف ليس حول مبدأ المقايضة في حد ذاته (تقديم تنازل إسرائيلي للفلسطينيين مقابل تشديد العقوبات على إيران) بل حول ترتيب الأولويات. وقد حصل شيء من هذا القبيل في أعقاب اجتياح قوات صدام حسين للكويت قبل عقدين من السنين تقريباً، عندما رأت الإدارة الأميركية أنّ حماية صدقيتها لدرء تهمة الكيل بمكيالين في المنطقة تستدعي الانكباب على الملفات الساخنة للنزاع العربي الإسرائيلي الفلسطيني، والضغط على الحليف الإسرائيلي لإطلاق مفاوضات مدريد. البقية معلومة، وهي عزل الموضوع الفلسطيني عن مداراته السياسية العربية والإسلامية والإقليمية. وكان هذا الفصل بين الدوائر، ومعه وضع الرئيس الفلسطيني المنتخب ياسر عرفات وشعبه في قفص، هو هدف اتفاقية أوسلو. وكانت وجهة النظر الإسرائيلية تقوم على إقناع الأخ الأكبر بأنه لا حاجة لتقديم تنازلات ما دام الطرف الإسرائيلي شريكاً فعلياً في الانتصار «الكوني» الذي أنهى الحرب الباردة والثنائية القطبية الدولية، وبأنّ ما لا يمكن انتزاعه من العرب والفلسطينيين بالعنف يمكن انتزاعه بالمزيد من العنف والضغط . العجز ليس شللاً فحسب. إنه بقرة حلوب أيضاً. ثمة ما يدل على أن وجهة النظر هذه لم تتغير في الجوهر وإن عرفت تنويعات في الأداء. وها هي آخر الأنباء تتحدث عن طلب أميركي يقضي بتجميد الاستيطان في القدس مدة أربعة أشهر لإطلاق المفاوضات مع الفلسطينيين، مشفوعاً بالضغط على هؤلاء لكي يقبلوا بمحادثات، مباشرة كانت أو غير مباشرة. ويخشى بالفعل أن يتحول موضوع الاستيطان في القدس إلى سقف للمفاوضات المزمع إجراؤها. وبذلك يكون الطرف الإسرائيلي، في حال قبوله الطلب الأميركي بالتجميد، قد قدم التنازل «المؤلم» وينتظر التنازل المقابل الذي يفترض أن يأتي من دون ألم ما دامت العين بصيرة واليد قصيرة، بحسب رواية دامعة في أحسن الأحوال، وفاجرة في أسوئها.