خلص علماء وفقهاء من دول إسلامية وعربية عدة، إلى استلهام روح فتوى سابقة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والانطلاق منها إلى ابتداع مصطلح فقهي بديل، يناسب واقع العصر، في مسألة عرفت فقهياً ب«تقسيم الديار». وأكد الفقهاء في ختام مؤتمر أقامه أخيراً في مدينة ماردين التركية «المركز العالمي للترشيد والتجديد» برئاسة العلامة عبدالله بن بيه، أن تقسيم الدول ما بين «دار سلام، أو حرب» لم يعد صالحاً للعهد المعاصر الذي أصبح فيه جميع السكان في «الدولة الوطنية» يتمتعون بكامل حقوقهم في الغالب، واقترحوا إطلاق مصطلح «فضاء سلام» بديلاً عن التقاسيم السابقة أجمعها، أسوة بابن تيمية الذي ابتدع وصفاً جديداً لأهل ماردين قبل قرون خلت، ولم يأسر نفسه بالأقسام المشهورة في زمانه. وكان أهل المدينة في عهد التتار سألوا ابن تيمية عن الوصف الشرعي لمدينتهم، وهل هي «دار كفر أم إسلام؟»، فرد بإجابة مبتكرة في نظر الفقهاء، وأطلق عليها قسماً ثالثاً، وقال: «وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه». وهو التوصيف الذي استغله كثير من أتباع الفكر التكفيري في تبرير أعمالهم الإرهابية. إلا أن المجتمعين الذين خصصوا مؤتمرهم لنقاش فتوى ابن تيمية حول المدينة نفسها قبل 700 عام، أكدوا أن فتوى شيخ الإسلام «لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسّكاً ومستنداً لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم واستباحة الدماء والأموال وترويع الآمنين، والغدر بمن يعيشون مع المسلمين أو يعيش معهم المسلمون بموجب علاقة مواطنة وأمان، بل هي فتوى تحرّم كل ذلك (...) وقائلها موافق فيها ومتبع لعلماء المسلمين في فتاواهم في هذا الشأن ولم يخرج عنهم». مقررين أن من استند إلى تلك الفتوى في قتال المسلمين أو غيرهم «أخطأ في التأويل وما أصاب في التنزيل». وأبلغ الدكتور عبدالوهاب الطريري «الحياة» في اتصال هاتفي معه أن المؤتمرين وهو أحدهم، أرادوا الانطلاق من فتوى ابن تيمية الذي كان سبّاقاً في إطلاق قسم جديد على مدينة محددة، في وقت لم يكن ذلك مشاعاً، للانتهاء إلى وصف علمي جديد، يتلاءم مع واقع العالم المعاصر الذي ارتبط فيه المسلمون بمعاهدات دولية يتحقق بها الأمن والسلام في الغالب لجميع البشرية، إلا ما كان استثناء من بعض الدول الخارجة عن القانون. كما أشار الطريري إلى أن الفقهاء إلى جانب ذلك أرادوا تبيان أن استغلال فتوى ابن تيمية التي كانت في عهده قمة في الاعتدال، تم بغير وجه حق، فكان واجباً تجريدها من الفهم المغلوط، وتوكيد أنها حجة على من يحاولون أن يجدوا منها تبريراً لمخالفاتهم. أما النتائج المتوقعة من وراء النقض الذي قام العلماء به للفتوى، فأجاب عنه رئيس المركز الشيخ ابن بيه في اتصال مع «الحياة» بالقول: «أردنا عبر الخطوة التي قمنا بها، التنبيه إلى ثلاث نتائج، أولاها تنبيه المثقفين والعلماء إلى مراجعة التراث، وثانيها لفت النظر إلى أن بعض أحكام الشرع تتأثر بالواقع والمكان، فمعظم مشكلات الفكر الديني تتركز على الخلل في (التأويل، والتعليل، والتنزيل)، وثالثها أمنية بأن يصل ما اجتمع عليه العلماء والمفتون للانطلاق منه، وإعلان مواقف تدفع بعض الشباب إلى مراجعة أنفسهم، فالاقتتال الداخلي ليس طريقاً إلى الجنة ولا إلى فلسطين». وكان فقهاء من أقطار العالم الإسلامي شاركوا في المؤتمر، بينهم ستة من السعودية، هم المشايخ عبدالله عمر نصيف، وعبدالوهاب الطريري، وعبدالله البراك، وناصر الحنيني، وعايض الدوسري، وحسان فلمبان.