تعيد ندوة باسم يوسف في الجامعة الأميركية في بيروت الى الأذهان تساؤلاً بديهياً: لماذا توقف الإعلامي الساخر عن الظهور عبر شاشات التلفزة العربية على رغم النجاح الهائل الذي حققه؟ غياب يوسف الذي لم يتمكن نظام او محطة اعلامية من تحمله في زمن ما بعد الثورات العربية، كان له من دون شك أثر كبير في متابعته من فئات اجتماعية كبرى، الا انه لم يعن و بأي شكل من الأشكال افول نجمه. ها هو في بيروت، يأتيها من الولاياتالمتحدة حيث قدّم جوائز ايمي، قبل التوجه الى تونس حيث قدم حفل الاختتام في مهرجان ايام قرطاج السينمائية. عالمية يوسف، من دون شك مزعجة لمن حاربوه، الا ان نخبويتها تجعل منها اقل شراً من شعبيته الساحقة التي جعلت منه خلال مرحلة ظهوره التلفزيوني جون ستيوارت العرب. في هذه التسمية بعض من الإجابة عن السؤال المتعلق بإقصائه عن الشاشات. فجون ستيوارت نجم ذا ديلي شو، أشهر برامج الكوميديا السياسية التابعة لقناة كوميدي سنترال، لم يكن سهل الهضم حتى في ديموقراطية متقدمة نسبياً مثل الولاياتالمتحدة الأميركية. في تحقيق نشرته تحت عنوان «زيارات جون ستيوارت السرية الى البيت الأبيض» تحدثت صحيفة «بوليتيكو» عن العلاقة بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والإعلامي «الأكثر تأثيراً» في أميركا. عند الوهلة الأولى يبدو التحقيق شبيهاً بحملات شنتها وسائل اعلامية محافظة وعلى رأسها قناة «فوكس»، اعتبرت ستيوارت واحداً من خبراء البروباغاندا التابعين لفريق اوباما. الا ان التحقيق وبسرعة يذهب باتجاه معاكس. ففي سياق عرضه للمعلومات الخاصة التي حصل عليها من مصادر في البيت الأبيض، يتحدث كاتب التحقيق دارن سامويلسون عن نجاح ستيوارت وبرنامجه «بالوصول» الى صناع القرار الذين انضموا الى أكثر من مليوني مشاهد يتابعون البرنامج ويعترفون بقدرته ليس على التأثير في الرأي العام فحسب، انما أيضاً في السياسات المتبعة. يدعم سامويلسون تحقيقه بأمثلة حسية ومباشرة مثل قرار الكونغرس تمرير قانون التعويضات لقدامى المحاربين المتضررين من احداث 11 أيلول (سبتمبر)، بعد ثلاثة أيام فقط على عرض حلقة اعدها ستيوارت عن الموضوع، «لينجح في 22 دقيقة تلفزيونية في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه ثماني سنوات من المحاولات في اروقة الكونغرس». في ضوء استعراضه منجزات ستيوارت، يلتقي الكاتب مع ما توصلت إليه عشرات المقالات والكتب ومراكز الدراسات، عن التأثير الإيجابي الذي ادخلته الكوميديا السياسية التي يعتبر ستيوارت والدها الشرعي على الصعيدين الإعلامي والسياسي ليبدو أي كلام عن «بروباغاندا» خالياً من المعنى. فبأسلوبه الساخر الذي لم يستثن احداً، نجح ستيوارت وفق دراسة اعدتها منظمة «بيو» بأن يكون مصدر المعلومات الأول بالنسبة إلى الفئات التي كانت تعتبر الأكثر صعوبة للاختراق بما فيها فئة الذكور بين 18 و 34 سنة، وهي مهمة انتخابياً. الليبرالي الذي اعتبرته «هارفرد ريفيو» الرئيس الخارق (Super boss) لكل الكوميديين الذين بدأوا حياتهم المهنية ضمن فريقه، ومن بينهم ستيفن كولبرت وجون اوليفر، بدأ مسيرته في نهاية عهد بيل كلينتون، واكب احداث 11 أيلول وحربين اميركيتين في العراق وأفغانستان، كان خلالهما من اشرس المنتقدين لإدارة جورج بوش. «صوت العقل في عالم يحكمه الجنون» كما وصفه براين مويلان في مقالة في «ذا غارديان»، لم يبن انتقاداته لبوش وفريقه على افتراءات، وخفة برنامجه لم تخفف يوماً من جدية الصحافة التي قدمها ومبادئها. مع انتقاله من مخيم «المعارضة» الى مخيم «النظام» لم يتخل ستيوارت عن دوره ولا عن استقلاليته. لم يخف حماسته لترشيح اوباما، تماماً كما لم يخف انحيازه بعد انتخاب الأخير إلى مشروع التغطية الصحية، أوباما كير، أو المشاريع المتعلقة بالتغير المناخي والعدالة الاجتماعية وقوانين حمل السلاح. هذا الانحياز إلى قضايا مشتركة، لم يجعل من ستيوارت متزلفاً، ولم يمنعه من انتقاد سياسة اوباما الخارجية في ما يتعلق بمحاربة «داعش»، في واحد من اكثر الفيديوات حدة وانتشاراً. بهذا المعنى، اي حديث عن علاقة وحتى عن لقاءات غير معلنة بين الإعلامي والسلطة، لا يجعل من الأول اعلامي السلطة. يتطلب ذلك اكثر من استديوات فارهة، وفرق إعداد ضخمة، وحتى موهبة وخفة دم استثنائيين. يتطلب ذلك، إعلاماً ملتزماً وإن ضمن شروط لعبة السوق، وقيادة سياسية تعرف حدودها التي يضعها القانون، ومجتمعاً متسامحاً مع فكرة السخرية من أي شخصية عامة، مهما كانت حساسيتها، وهذا كله لم يكن متوفراً لجون ستيوارت العرب. المتاح له عربياً اليوم، ظهور نخبوي، مثل ندوة باللغة الإنكليزية في جامعة اميركية، تقتصر على جمهور محدود مهما بلغت كثافته وحماسته. هل يعني ذلك نهاية ظاهرة باسم يوسف؟ الوجه الآخر لهذا السؤال هو هل انتهت لعبة الربيع العربي؟ الجواب اذاً: قطعاً لا. على الأقل ليس بعد.